ص1      الفهرس       المحور

نزعة إنسانية جديدة

 

مرسيا إلياد

تعريب: عبد السلام حيمر

لقد أصبح من العسير -بصورة متزايدة- معرفة كل ما يتحقق من تقدم في جميع قطاعات تاريخ الأديان، رغم ما نتوفر عليه اليوم من كتب ودوريات وبيبليوغرافيات. ومن ثم أصبح صعبا على المرء -بصورة متزايدة- أن يصبح مؤرخا للأديان. ولم يبق للمؤرخ إلا أن يشاهد نفسه بأسى وهو يتحول إلى متخصص في دين واحد، بل في مرحلة معينة أو في جانب خاص من جوانب ذلك الدين.

حفزتنا هذه الوضعية إلى خلق دورية جديدة لم نهدف من وراء إصدارها إلى مجرد إضافة مجلة أخرى تكون في متناول المتخصصين (هذا مع العلم أن غياب دورية كهذه في الولايات المتحدة كان كافيا لتبرير إصدارها)، بل كنا نهدف بصفة خاصة إلى توفير أداة للتوجيه في مجال يتسع باستمرار، ولحفز تبادل الآراء بين المتخصصين الذين ليسوا على إطلاع -بصورة عامة- بمجريات التقدم المنجز في التخصصات العلمية الأخرى. ونأمل أن يتحقق هذا التوجيه، وأن تتبادل الآراء ووجهات النظر، بفضل تلخيصات لكل التطورات وأنواع التقدم الأكثر راهنية التي تم تسجيلها فيما يتعلق ببعض القضايا-المفاتيح في تاريخ الأديان، وبفضل النقاشات المنهجية والمحاولات العلمية الرامية إلى تحسين هرمينوطيقا المعطيات الدينية.

تحتل الهيرمينوطيقا مكانة أساسية في أبحاثنا لأنها تمثل دون منازع الجانب الأقل تطورا لتاريخ الأديان. ذلك أنه لما كان الباحثون المختصون قد انهمكوا كلية، في أغلب الأحيان، بجمع ونشر وتحليل المعطيات. والحالة هذه، إن تلك المعطيات هي التعبير عن مختلف التجارب والخبرات الدينية. إنها تمثل، في التحليل الأخير، مواقف وأوضاعا خبرها بشر في مجرى التاريخ. وعندما يكون مؤرخ الأديان قد أعاد بناء تاريخ شكل ديني أو أوضح سياقه السوسيولوجي، الاقتصادي أو السياسي، فإنه لا يكون قد أنهى عمله، أحب ذلك أم كره؛ إذ يجب عليه -زيادة على ذلك- أن يفهم دلالة ذلك الشكل الديني أي أن يعرف ويوضح الأوضاع والمواقف التي أدت أو جعلت ظهور أو انتصار هذا الشكل الديني، في لحظة خاصة من التاريخ، أمرا ممكنا.

ولن يؤدي علم الأديان مهمته الثقافية الحقة، إلا بالقدر الذي به سينجز تلك المهمة، وذلك بأن يجعل دلالة الوثائق الدينية قابلة لأن يتعقلها فكر الإنسان الحديث. وكيفما كان جور الدراسة المقارنة للأديان في الماضي، فإنها مدعوة في المستقبل القريب إلى أن تلعب دورا ثقافيا من الأهمية بمكان. وقد سبق لي أن قلت مرارا بأن لحظتنا التاريخية تضطرنا إلى مجابهات لم يكن من الممكن تصورها منذ خمسين سنة خلت. ذلك أنه إذا كانت شعوب آسيا -من جهة- قد اقتحمت حديثا مشهد التاريخ، فإن الشعوب المسماة "بدائية" -من جهة أخرى- تستعد للظهور في أفق "التاريخ الكبير" بالمعنى الذي يفيد أنها تبحث عن طريقها لأن تصبح ذواتا فاعلة في التاريخ عوض أن تظل موضوعات له، منفعلة به، وهو الدور الذي ظلت تلعبه إلى هذا الوقت. بيد أنه إذا كانت شعوب الغرب قد كفت عن الانفراد "بصنع" التاريخ، فإن قيمها الروحية والثقافية لن تتمكن من الاستمرار في التمتع بالمكانة المفضلة -لكي لا نقول بالسلطة التي لا تناقش-، تلك المكانة التي كانت تحتلها منذ بضعة أجيال. فقد أصبحت تلك القيم تحلل وتقارن وتحاكم من قبل غير الغربيين. أما الغربيون فإنهم ينساقون من جهتهم أكثر فأكثر إلى دراسة وتحليل وفهم روحانيات آسيا والعالم التقليدي. ويجب أن تجد هذه الاكتشافات وهذه اللقاءات امتدادا لها في الحوار. ولا يجب أن يقف هذا الحوار -كيما يكون أصيلا وخصبا- عند حد الكلام الامبريقي النفعي؛ إذ من واجب الحوار الحقيقي أن ينصب على القيم المركزية لثقافة كل مساهم فيه. والحالة هذه أنه إذا أردنا أن نفهم فهما دقيقا هذه القيم، فإنه من الضروري أن نعرف مصادرها الدينية لأن الثقافات غير الأوروبية كما نعلم، سواء كانت شرقية أو بدائية، لازالت تتغذى من تربة دينية غنية جدا.

وهذا هو السبب الذي جعلني أفكر في أن تاريخ الأديان مدعو إلى أن يلعب دورا مهما في الحياة الثقافية المعاصرة، لا لأن فهم الأديان الغريبة (الأجنبية) والتقليدية ستساعدنا مساعدة ملموسة في الحوار مع ممثلي تلك الأديان وكفى، بل لأن مؤرخ الأديان -إلى جانب ذلك- وهو يحاول فهم الأوضاع الوجودية التي عبرت عنها الوثائق التي يدرسها سيلج حتما إلى معرفة أكثر عمقا بالإنسان. ويمكن لنزعة إنسانية جديدة قائمة على أساس مثل هذه المعرفة أن تتطور على الصعيد العالمي. ويمكن أن نذهب إلى حد التساؤل عما إذا لم يكن بمقدور تاريخ الأديان أن يساهم مساهمة أساسية في تكوين تلك النزعة الإنسانية الجديدة لأن الدراسة التاريخية المقارنة للأديان تشمل -من جهة- كافة الأشكال الثقافية المعروفة سواء تعلق الأمر بالثقافات الإتنولوجية أو بتلك الثقافات التي لعبت دورا عظيما في التاريخ، ومن جهة أخرى فإن مؤرخ الأديان، وهو يدرس التعبيرات الدينية لثقافة ما، يدرسها من الداخل ولا يكتفي بدراستها في سياقها السوسيولوجي، الاقتصادي أو السياسي. وأن مؤرخ الأديان مدعو في التحليل الأخير إلى تسليط الأضواء على عدد كبير من الأوضاع التي لم يألفها إنسان الغرب. وبمثل هذا الفهم للأوضاع غير المألوفة و ((الغريبة))، تصبح الإقليمية الثقافية متجاوزة.

لا يتعلق الأمر إذن بتوسيع أفقنا، وبالزيادة في "معرفتنا بالإنسان" زيادة كمية إستاتيكية" إذ اللقاء "بالآخرين" ومواجهتهم -وهم بشر ينتمون إلى مختلف أنماط المجتمعات التقليدية الغريبة عنا- يعد حافزا مخصبا على الصعيد الثقافي. وإن تجربة هذه الهيرمينوكيقا الفريدة تجربة شخصية هي الخلافة المبدعة.. وليس مستبعدا أن تكون للإكتشافات و "اللقاءات" التي أصبحت ممكنة بفضل تطور تاريخ الأديان مضاعفات مشابهة لتلك التي كانت لبعض الإكتشافات  الشهيرة في الماضي الثقافي الغربي. يمثل في ذهني على سيبل المثال اكتشاف الفنون الغريبة البدائية التي أعادت الحيوية لعلم الجمال الغربي. كما يخطرني، بصفة خاصة، إكتشافات التحليل النفسي التي فتحت آفاق جديدة أمام فهمنا للإنسان. وفي الحالتين، تم اللقاء "بالغريب"، وبالمجهول، وبما لا يمكن اختزاله في مقولات اعتيادية مألوفة، و "بالآخر كلية" إذا رمنا الاختصار في القول. بيد أن هذا اللقاء "بالآخر" لا يخلو من مخاطر. وتعد المقاومة التي اعترضت، قبل كل شيء الحركات الفنية الحديثة وعلم نفس الأعماق مثالا على ذلك. وفضلا عن ذلك، فإنه من الممكن تفهم هذه المقاومة، فلها ما يبررها، لأن الاعتراف بوجود "آخرين" يؤدي -بصورة نهائية وحتمية- إما إلى إضفاء الطابع النسبي على العالم الثقافي الرسمي أو إلى هدمه وتقوضيه. ومنذ اللحظة التي تم الاعتراف فيها بالإبداعات الفنية للتكعيبة والسريالية لم يبق العالم الاستيطيقي الغربي على الحالة التي كان عليها. وبالمثل، فإن "العالم" الذي كان الإنسان ما قبل-تحليلي يعيش فيه قد سقط في طي الإهمال بعد اكتشافات فرويد. بيد أن هذه "التهديمات" قد فتحت آفاق جديدة أمام عبقرية الغرب الخلاق.

كل هذا يشير إلى انفتاح إمكانيات لا محدودة أمام مؤرخي الديانات، مثلما يشير إلى المواجهات التي يتعرضون لها وهم بصدد فهم الأوضاع الإنسانية المغيرة للأوضاع المألوفة لديهم. وإنه لمن الصعب الاعتقاد بأن خبرات "غريبة"، لا تقل في غرابتها عن خبرات قناص العصر الحجري الأول أو الكاهن البودي، لن يكون لها أدنى مفعول في الحياة الثقافية الحديثة. ومن البديهي أن "لقاءات" من هذا النوع لن تصبح خلاقة ثقافيا إلا عندما يتجاوز مؤرخ الأديان مرحلة التبحر في المعرفة الخالصة - أي عندما يبذل مجهودا في فهم الوثائق التي سبق له أن جمعها ووصفها ورتبها فهما قائما على أساس إطارها المرجعي الخاص. ولا يعني هذا أننا ننتقص من قيمة التبحر في المعرفة؛ بيد أنه يحسن بنا أن نسجل بعد كل شيء أن التبحر في المعرفة لا يستوفي لوحده إنجاز مهمة مؤرخ الأديان مثلما أن المعرفة باللغة الإيطالية خلال القرن 13، وبثقافة فلورنسا خلال هذه الحقبة ذاتها، ودراسة الثيولوجيا والفلسفة القروسطيين، ومعرفة حياة دانته، لا تكفي للكشف عن القيمة الفنية للكوميديا الإلهية. إننا نتردد تقريبا في ترديد هذه البديهيات التي تعتبر من قبيل تحصيل الحاصل. بيد أننا لن نمل من تكرار القول بأن مؤرخ الأديان لا ينهي عمله بمجرد نجاحه في إعادة بناء التطور الزمني لديانة ما، وتحديده لسياقها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وككل الظواهر الإنسانية، فإن الظاهرة الدينية معقدة جدا. وإذا أردنا إدراك كل قيمها ودلالاتها فيجب علينا مقاربتها انطلاقا من زوايا نظر متعددة.

ومن المؤسف أن مؤرخي الأديان لم يستفيدوا من تجربة زملائهم مؤرخي الأدب أو ناقديه. فقد كان بإمكان التقدم الذي تحقق في هذه المواد العلمية أن يسمح لهم بتفادي شتى أشكال سوء التفاهم المزعجة. وإن وجود استمرارية وتضامن بين عمل المؤرخ وعالم اجتماع الأدب، والناقد وعالم الجمال، لهو من قبيل الأمر الواقع المعترف به في وقتنا الحاضر. وإذا كان صحيحا القول -على سبيل المثال- بأننا لا نستطيع إلا بعسر فهم أعمال بلزاك ونحن نجهل ما كان عليه المجتمع الفرنسي في القرن 19، ولا نعرف تاريخ هذا العصر (بالمعنى الواسع للكلمة: التاريخ السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والديني)، فإنه لا يقل عن ذلك صحة القول بأننا لا نستطيع اختزال "الكوميديا الإنسانية" في بعد الوثيقة التاريخية البسيطة الخالصة. ولما كانت تلك الأعمال نتاج عمل فرد استثنائي هو بلزاك، فإن معرفة حياته ونفسيته أصبحت واجبة لهذا السبب. بيد أن صياغة هذه الأعمال العملاقة تتطلب منا أن ندرسها -أيضا- في حد ذاتها، في صفة صراع الفنان مع مادته الخام، وانتصار الفكر الخلاق على المعطيات المباشرة للتجربة الحسية. وبعد أن ينهي مؤرخ الأدب مهمته يبقى أمامنا إنجاز عمل تفسيري يتصدى له الناقد الأدبي. فهو من يقارب الأعمال  الأدبية بوصفها كونا مستقلا له قوانينه وبنياته الخاصة. وفضلا عن ذلك، فإن عمل الناقد لا يستوفي الموضوع، على الأقل في حالة الشعراء، لأنه في هذه الحالة تلقى على عاتق عالم الجمال مهمة اكتشاف وتفسير قيم الأكوان الشعرية. لكن، عندما يكون عالم الجمال قد قال كلمته الأخيرة، هل باستطاعتنا القول بأن العمل الأدبي قد "فسر" أخيرا؟. هناك دائما رسالة سرية في أعمال الكتاب الكبار. وإننا نمتلك على صعيد الفلسفة أكثر الفرص لتلقي تلك الرسالة.

إنني أجرأ على الأمل في أن يغفر لي بعض هذه الملاحظات حول هيرمينوطيقا الأعمال الأدبية. وإذا كنت أجزم بأن تلك الملاحظات غير مكتملة، فإنني أعتقد أنها كافية للبرهنة على أن أولئك الذين يدرسون الأعمال الأدبية واعون كل الوعي بتعقدها وأنهم، بقليل من الاستثناءات، لا يحاولون "تفسيرها" باختزالها في هذا الأصل أو ذاك: صدمة نفسية طفولية، إصابة غددية، وضعية اقتصادية، اجتماعية، أو سياسية، الخ… وليس من قبيل المجازفة أنني أشرت هنا إلى الوضعية الفريدة للإبداعات الفنية لأنه من الممكن مقارنة الكون الجمالي -من وجهة نظر معينة- بكون الديانة. ففي الحالتين معا نكون أمام خبرات وتجارب فردية (الخبرة الجمالية للشاعر وقارئـه من جهة، والخبرة الدينية من جهة أخرى) وأمام وقائع ما فوق شخصية (عمل فني في متحف، قصيدة، معزوفة؛ وجه إلهي، طقس، أسطورة…الخ). يمكننا حقا مواصلة النقاش حول الدلالة التي قد نكون ميالين إلى نسبتها إلى هذه الوقائع الفنية والدينية. غير أن شيئا واحدا على الأقل يبدو بديهيا هو أن لأعمال الفن، مثلها في ذلك مثل "المعطيات الدينية"، نمط وجود خاصا بها: إنها توجد على أساس إطارها المرجعي الخاص، وفي كونها الخاص المتميز. وإذا كان هذا الكون ليس هو الكون الفيزيائي للتجربة المباشرة، فإن ذلك لا يعني لا واقعيته. لقد نوقشت هذه المسألة بما فيه الكفاية مما يجعل من غير الضروري أن أعود إلى مناقشتها هنا مكتفيا بإضافة ملاحظة واحدة: لا يكشف العمل الفني عن معناه ودلالته إلا بقدر ما اعتبرناه إبداعا مستقلا أي بقدر ما قبلنا نمط وجوده -الذي هو نمط الإبداع الفني- ولم نختزله في أحد عناصره المكونة (كالصوت أو الجرس الموسيقي، والمفردات اللغوية، والبنية اللسانية ….الخ في حالة القصيدة…)، أو في أحد استعمالاته المقبلة(كما في حالة القصيدة الحاملة لرسالة سياسية أو تلك التي قد تصلح لتكون وثيقة سوسيولوجية، إتنوغرافية…الخ).

يظهر لي، بالمثل، أن معطى دينيا يكشف عن معناه ودلالته العميقة عندما ينظر إليه انطلاقا من إطاره المرجعي الخاص لا عندما يختزل في هذا أو ذاك من أوجهه الثانوية أو سياقاته. ولا أسوق دليلا على ذلك إلا المثل التالي: قليلة هي الظواهر الدينية التي ترتبط بالظروف السوسيوسياسية بروابط مباشرة وبديهية أكثر من الحركات المهدوية والألوفية الحديثة لدى الشعوب القديمة الاستعمارية ("cargo-cute, etc"). بيد أن تحديد وتحليل الظروف والشروط التي سمحت بوجود هذه الحركات المهدوية الدهرية لا تشكل إلا جزءا من مهمة مؤرخ الأديان، لأن هذه الحركات هي أيضا إبداعات الفكر البشري، بمعنى أنها أصبحت على ما هي عليه (حركات دينية، لا مجرد إشارات احتجاج وتمرد) بفعل إبداعي للفكر البشري.

يمكن القول إذن على سبيل التلخيص بأنه يجب دراسة ظاهرة دينية مثل ظاهرة المهدوية البدائية على النحو الذي ندرس به الكوميديا الإلهية أي باستعمال كل أدوات ووسائل المعرفة والعلم (وليس بالاعتماد فقط على المفردات اللغوية والتركيب اللغوي أو على مجرد تصورات المؤلف الثيولوجية والسياسية، كما سبق لنا أن قلناه ونحن بصدد الحديث عن دانته). ذلك أنه إذا كان مؤرخ الأديان يرغب حقا في تسهيل ولادة إنسية جديدة، فمن واجبه أن يستخلص من كل هذه الحركات الدينية البدائية قيمتها المستقلة، تلك القيمة التي تتجلى في كونها إبداعا روحيا. وإن اختزال الحركات الدينية في مجرد السياق الاجتماعي السياسي يعني أننا، في التحليل الأخير، قد قبلنا أنها ليست "سامية بما فيه الكفاية، وأنها ليست "نبيلة" بالقدر الذي يجعلها تدرس وتعالج كما لو كانت إبداعات للعبقرية الإنسانية مثلها في ذلك مثل الكوميديا الإلهية أو"les Fioretti" للقديس فرانسوا. ولذلك يمكننا أن نتوقع في المستقبل القريب، أن أنتلجنتسيا الشعوب المستعمرة قديما ستعتبر الباحثين المتخصصين في العلوم الاجتماعية مجرد مدافعين مقنعين عن الثقافة الغربية. وفي الواقع، فإنه من الممكن أن يتهم أولئك العلماء - بسبب إلحاحهم الراسخ على الأصل والسمة الاجتماعيين السياسيين للحركات المهدوية "البدائية"، بأنهم مصابون بعقدة التفوق الغربي، ماداموا يعتقدون بأن الحركات الدينية من هذا النوع عاجزة عن السمو إلى نفس مستوى "التحرر من الظرفية الاجتماعية السياسية" الذي تمتع به جواشيم دو فلورJoachim de Flore أو القديس فرانسوا على سبيل المثال.

لا يعني ذلك طبعا أننا نقول بإمكانية فهم الظاهرة الدينية خارج "تاريخها" أي خارج سياقها الثقافي الاجتماعي الاقتصادي. فلا وجود لظاهرة دينية "خاصة" خارج التاريخ، لأنه لا توجد أية ظاهرة إنسانية دون أن تكون في نفس الوقت ظاهرة تاريخية. وكل تجربة دينية إنما يعبر عنها وتبث في سياق تاريخي خاص. بيد أن القول بتاريخية التجارب والخبرات الدينية لا يعني اختزالها في أشكال لا دينية من السلوك. وأن التأكيد على كون المعطى الديني هو دوما معطى تاريخي لا يعني أنه قابل للاختزال في تاريخ اقتصادي اجتماعي أو سياسي. ومن الواجب علينا ألا نغض الطرف أبدا عن أحد المبادئ الأساسية للعلم المعاصر: هو أن سلم القياس والتصنيف هو الذي يبدع الظاهرة. وقد ذكرت في دراسة أخرى، أن Poincaré كان يتساءل بسخرية عما إذا كان عالم الطبيعة، الذي لم يدرس أبدا الفيل إلا بالمجهر، سيعتقد أنه يعرف هذا الحيوان حق المعرفة. فالمجهر يكشف عن بنية وميكانيزم الخلايا اللذين يوجدان، بالطبيعة نفسها، في كل العضويات المتعددة الخلايا. وإذا كان الفيل، بالتأكيد، عضوية متعددة الخلايا، فهل يمكن اعتباره كذلك فحسب؟ إننا نفهم تردد الجواب إذا ما صيغ انطلاقا من المستوى المجهري، أما إذا صيغ انطلاقا من المستوى البصري، مستوى الملاحظة البصرية الإنسانية، التي تكمن مزيتها، على الأقل، في كونها تعرض الفيل بوصفه ظاهرة زيولوجية، فإن التردد غير ممكن على الإطلاق.

لا أنوي هنا عرض ميتودولوجيا علم الأديان، فهذا المشكل من التعقيد بمكان بحيث لا يمكن معالجته في صفحات قليلة. غير أنه من المفيد أن نكرر أن الإنسان الديني  l'homo religiosus يمثل "الإنسان الكلي". ومن ثم يجب أن يصبح علم الأديان مادة دراسية كلية، مما سيلزمه باستخدام وتمثل وتوضيح النتائج التي توصلت إليها مختلف مناهج مقاربة الظاهرة الدينية. فلا يكفي فهم دلالة ظاهرة دينية في سياق ثقافة ما، وفك رموز "رسالتها" (لأن كل ظاهرة دينية تكون شفرة)، بل يجب أيضا دراسة وفهم "تاريخها" وفصل وتمييز ما اختلط في عقدة تغيراتها وتعديلاتها، وفي المقام الأخير يجب استخلاص إسهامها في إغناء الثقافة برمتها.

لقد أحس عدد من العلماء في السنوات الأخيرة بالحاجة إلى تجاوز البديل: الفينومينولوجيا الدينية -تاريخ الأديان، للوصول إلى أفق أكثر رحابة واتساعا يمكنهم فيه تطبيق هذين العمليتين الذهنيتين معا. ويظهر أن جهود العلماء تتجه راهنا نحو الأخذ بتصور متكامل لعلم الأديان. وإذا كان من المؤكد أن هاتين المقاربتين تتناسبان بمقدار ما مع أمزجة فلسفية متباينة، فإنه سيكون من قبيل السذاجة أن نفترض أن التوتر بين أولئك الذين كان يشكل تاريخ الظواهر الدينية همهم الوحيد، سيختفي في يوم من الأيام اختفاء كليا. بيد أننا نعتبر مثل هذا التوتر خلاقا إذ بفضله نجا علم الأديان من الدوغمائية والجمود.

إن نتائج هذين العمليتين الفكريتين الذهنيتين صالحة، بالمثل، لقيام معرفة أكثر ملاءمة بالإنسان الديني   l'homo religisusلأنه إذا كان "الفينومينولوجيون" يهتمون بدلالات المعطيات الدينية، فإن المؤرخين، من جانبهم، يحاولون تبيان الكيفية التي بها أحس الناس بتلك الدلالات وعاشوها في الثقافات المختلفة واللحظات التاريخية المتنوعة، وكيف تغيرت واغتنت أو افتقرت خلال مجرى التاريخ. والحالة أنه إذا أردنا تجنب السقوط في "اختزالية متجاوزة"، يجب علينا دائما أن نعتبر تاريخ الدلالات الدينية هذا، جزءا من تاريخ الفكر البشري.

يمكن لتاريخ الأديان أكثر من أي مادة دراسية إنسية أخرى (أي أكثر من علم النفس والانتروبولوجيا وعلم الاجتماع الخ…) أن يفتح الطريق أمام انتروبولوجيا فلسفية لأن المقدس بعد كوني ولأن بدايات الثقافة ذات أصل ضارب في عمق تجارب وعقائد دينية. بالإضافة إلى ذلك فإن إبداعات ثقافية كالمؤسسات الاجتماعية، والتقنيات، والأفكار الأخلاقية، والفنون، الخ… لا يمكن أن تفهم فهما صحيحا، ولو بعد علمنتها الجذرية، إذا لم نتعرف على سجلها الأصلي الديني، ذلك السجل الذي تنتقده ضمنيا وتعدله أو ترفضه وقد أصبحت على ما هي عليه راهنا: قيما ثقافية دنيوية علمانية. وهكذا يكون مؤرخ الأديان قادرا على فهم ثبات ما يدعى بالوضع الوجودي النوعي للإنسان "لان يكون في العالم"، مادامت التجربة الدينية مرادفة له. وفي الواقع، فإن وعي الإنسان بنمط وجوده الخاص واضطلاعه بأعباء حضوره في العالم، يشكلان تجربة "دينية".

وفي التحليل الأخير، يكون مؤرخ الأديان ملزما أثناء جهده التأويلي بأن "يحيا مرة أخرى" تعدد الأوضاع الوجودية وأن يستخلص عددا كبيرا من الأنطولوجيات الماقبل نسقية. فلا يمكنه أن يقول مثلا بأنه فهم الديانات الاسترالية إذا لم يكن فاهما لنمط وجود الاستراليين في العالم. وكما سنرى فيما بعد، فإننا نعثر مبكرا، في هذا المستوى من الثقافة، على مفهوم تعدد أنماط الوجود كما على الوعي بأن السمة النوعية للوضع الإنساني ليست إلا نتاجا "لتاريخ مقدس" اصلي.

لا يمكن لهذه العناصر أن تصبح مفهومة إذا لم يفطن الباحث إلى كون أن لكل ديانة "مركزا"، تصورا مركزيا يلهم ويحرك مجموع متن أساطيرها وطقوسها وعقائدها. فهذا واقع بديهي في ديانات كاليهودية والمسيحية والإسلام، رغم ما أحدثته التعديلات المدخلة عليها عبر الزمن من تشويش في "شكلها الأصلي". وعلى سبيل المثال، يمكن القول بأن الدور المركزي ليسوع بوصفه المسيح المصلوب يبقى شفافا، رغم ما قد يظهر على بعض الصياغات الثيولوجية والكنسية من تعقيد وتكلف وصنعة بمقارنتها مع "المسيحية الأصلية". بيد أن "مركز" ديانة ما ليس دوما بديهيا. فبعض الباحثين لا يتساءلون أحيانا حتى عن وجوده. وبدلا من ذلك، تجدهم يحاولون توظيف القيم الدينية لبعض أنواع المجتمع وفق ما يتلاءم مع نظرية شائعة، مع نظرية في وضع موضة. ولذلك ظهرت الديانات البدائية، خلال ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، كما لو كانت رسوما توضيحية لنظريات سائدة خلال لحظة: الإحيائية، عبادة الأسلاف، المانا، الطوطمية الخ… وهكذا اعتبرت استراليا، مثلا، كما لو كانت تقريبا أرض الطوطمية بامتياز، تلك الطوطمية التي أعلن، بسبب عتاقة الاستراليين المزعومة، أنها الشكل الأكثر قدما للحياة الدينية. ومهما كانت أفكارنا، في مثل هذه الحالة، عن مختلف التصورات والعقائد الدينية التي جمعت تحت اسم "الطوطمية"، فإن شيئا واحدا بديهيا اليوم: هو أن الطوطمية لا تؤلف مركز الحياة الدينية الاسترالية. وعلى العكس من ذلك، فإن التعبيرات الطوطمية مثلها في ذلك مثل عدد من التصورات والعقائد الدينية الأخرى، لا تظهر بكل دلالتها ولا تشكل كلا متماسكا منسجما إلا عندما نبحث عن مركز الحياة الدينية في الموضوع الذي ما فتئ الاستراليون أنفسهم يرددون وجدوده، أي في مفهوم "زمن الحلم" الذي يشير إلى عصر بدئي أصلي خرافي كُوّن فيه العالم وأصبح الإنسان فيه ما هو عليه اليوم. وقد ناقشت هذا المشكل مطولا في مكان آخر، ومن غير المجدي الرجوع إليه هنا.

وليس هذا إلا مثالا اخترناه من بين أمثلة عديدة أخرى، وقد لا يكون أكثرها وضوحا لأن الديانات الاسترالية لا تمثل تعقيد وتنوع الأشكال التي يصادفها دارس ديانات الهند، ومصر أو اليونان. لكننا قد نفهم بيسر أنه إذا كان مؤرخو الأديان قد قدموا مساهمة غير ملائمة لتأسيس انتروبولوجيا فلسفية،فلأنهم أهملوا البحث عن المركز الحقيقي لهذا الشكل الديني أو ذاك. ويعكس هذا النقص، كما سنرى، أزمة أكثر عمقا وتعقيدا. ومع ذلك، فلا يجب أن ننسى أيضا تسجيل وجود علامات دالة على أن هذه الأزمة في طريقها إلى الحل.

 

ميرسيا إلياد: "الحنين إلى الأصول"ن سلسلة أفكار، كاليمار 1978، ص ص. 17-35.