صفحة 1    الفهرس     21-30 

التاريخ الأدبي باعتباره خطابا علميا

 

تأليف: كليمان موزان

تقديم وترجمة: حسن الطالب

مراجعة: عبد النبي ذاكر

تقديم المترجم:

يشكل المقال المترجم نص المداخلة التي ساهم بها الباحث المقارن والمنظر الأدبي كليمان موزان (Clement Moisan) ضمن أعمال ندوة "التاريخ الأدبي: نظريات، مناهج، تطبيقات" التي جرت وقائعها بجامعة لفال (Laval) في خريف 1986، بتنظيم من مركز البحث في الأدب الكيبيكي (C.R.L.I.Q)، لتنشر بعد ذلك، في كتاب يحمل نفس العنوان وبإشراف من الباحث ذاته. ولقد ضمت الندوة المشار إليها مجموعة من الأسماء اللامعة في حقل نظرية الأدب (من مقارنين ونقاد الأدب ومؤرخيه ولسانيين وسيميائيين ومؤرخي أفكار… الخ) وتغيت الندوة من هذا الحشد الهائل والمتنوع إنجاز قراءة وإعادة قراءة لمبحث التاريخ الأدبي في ضوء المستجدات التي عرفتها نظرية الأدب المعاصرة، وكذا الأطروحات والأبحاث الجديدة في أوروبا وأمريكا، التي أصبحت مؤهلة لتطعيم التاريخ الأدبي بمفاهيم جديدة ومنظورات مستوحاة من علوم وتخصصات تتعالق مع اهتمامات نظرية الأدب، نظرا للتداخل والتفاعل الذي ما انفكت تدعو إليه النظرية أو المقاربة النسقية (Approche systémique). وللوصول إلى هذه الغاية تمثلت إحدى المنطلقات الأولى في التحديد والتعريف بالمفهوم وبيان موضوعه الحقيقي والخاص وتخليصه من شوائب بعض الطروحات التي ارتكز عليها التاريخ الأدبي التقليدي. والتي ساهمت –بشكل كبير- في تجدير مجموعة من المقاربات السطحية والاختزالات، في فهمها للمشروع اللانسوني، عن نية أحيانا وسوء نية أحيانا أخرى. وقد عانى من هذا الوضع، ويعاني، مؤرخو الأدب ودارسوه على حد سواء، وانعكس بصفة سلبية على المدرسة في شقها الثانوي، حيث يمرر الكتاب المدرسي خطابا تربويا لا يخلو من إيديولوجيا معينة، تتخذ طابع تكريس وشرعنة (Légitimation)، خطاب غير بريء يتلبس بصنوف من التبريرات التربوية الرامية إلى فرض نماذج من القراءة الأدبية تبعا للعصور الأدبية المختلفة. من ثم تنبثق ضرورة مساءلة محتوى هذا الخطاب لاستكشاف إواليات اشتغاله ونجاعة المقاصد التي يرمي إليها. ألم يؤكد لانسون أن "تاريخ الأدب آفة في المدارس الثانوية"؟. وفي مقابل ذلك يبرز خطاب منهج التاريخ الأدبي على مستوى التعليم الجامعي والأكاديمي مبحثا لا غنى عنه ما دام يروم إلى تحقيق مستوى من الشمولية في بحث الظاهرة الأدبية واستقصاء معناها عبر العصور الأدبية المختلفة والطريقة التي تتناسل بها المفاهيم والأفكار الأدبية عن بعضها الأخرى. هذه الأهمية هي التي عبرت عنها إيفا كوشنر (Eva Kushner)، الباحثة المتخصصة في التاريخ الأدبي، حينما جعلت من هذا المبحث بؤرة لكل التساؤلات المرتبطة بالظاهرة الأدبية. ولا غرابة في ذلك ما دام التاريخ الأدبي قد احتل، ولأمد طويل، مسارح علم الأدب (Literatur wissenchaft). وإن طرح أزمته الحالية في علاقتها بنظرية الأدب قد يفتح آفاقا جديدة لمفهوم الأدب ذاته الذي غدا، في ظل الموجة الشكلانية والبنيوية والسيميائية (الدلائلية)، مجرد معادلات رياضية جوفاء أفضت بأصحابها إلى الباب المسدود، وهي إن لم تضر فلن تفيد في شيء. وعلة ذلك، في نظري المتواضع، أن تلك الموجة وما تفرع عنها من اتجاهات قد افترضت –منذ البداية- غيابا تاما لأهم المكونات الأساسية التي تساهم في تأسيس الظاهرة الأدبية (ونظرتها الجزئية الضيقة لاشتغالها ووظائفها) وعلى رأسها المبدع (الكاتب-المؤلف) عاملة بذلك على الاغتيال المبكر لأهم مكون من مكونات العملية الإبداعية باختزالها في قوانين داخلية صرف. ومن شأن استشراف توجهات علمية جديدة أن تدمج الأدب ونقده وتأريخه ضمن محيطه الاجتماعي والاقتصادي عبر التساؤل، أولا وقبل كل شيء، عن مدى فعالية هذا الذي نسميه أدبا أو إبداعا، وعن وظيفته التي تجعل منه جزءا لا يتجزأ من المعيش اليومي للفرد، بوصفه مؤسسة أو حقلا (بمفهوم بيير بورديو Pierre Bourdieu) ينفعل ويتأثر بما يحيط به (بها) ويساهم بأدواته الخاصة في خلخلة البنى الجامدة داخل المجتمع والمساهمة في تطوير وعي الفرد الثقافي والفكري، خارج فضاء النخبة والإقصاء أو التهميش، وبالتالي رد الاعتبار لممارسة غلب على ملمحها التجريد والشكلية المتطرفة من جهة أولى ومواجهة خطر الإقصاء، بله الإبادة التدريجية للعلوم الإنسانية –بما فيها نظرية الأدب والنقد وتاريخهما- بدعوى عدم إنتاجيتها أو مردوديتها أو بدعوى طابعها المجاني من جهة أخرى. ولعل أهمية نظرية الأنساق تكمن هذا بالضبط، إذ تفترض النظرية –ضمن ما تفترضه- فتح الظاهرة الأدبية على مجموع النشاطات الإنسانية الأخرى التي تتبادل معها التأثير والتأثر، أي تفاعل الأبنية الأدبية مع الوقائع الخارج-نصية (Extra-textuel) أو ما يسميه موزان تفاعل الحياة النصية (vie textuelle) مع الحياة الأنثروبو-اجتماعية (Vie Anthroposociale) (انظر موزان كـ. 1987، ص203). من هنا تنبثق أهمية دراسة الأدب في تطوره التاريخي ونوعية الصلات التي يقيمها مع باقي المؤسسات الأخرى (السياسية، الدين، اللغة، القانون، التربية، الاقتصاد، المجتمع…الخ) في كل فترة تاريخية، الشيء الذي يتطلب –في المقام الأول- رسم خطاطة تحدد داخلها المفاهيم الأساسية للمقاربة (وظيفة الأدب تبعا لاختلاف العصور والمقامات، التاريخي والأدبي، مفهوم العمل الأدبي، التطور الأدبي، البيوغرافيات، البيبليوغرافيات، التحقيب، المنتخبات، النماذج الأدبية، تاريخية القراءات، الجمهور المتلقي، سوق الكتب، المكتبات، التوزيع، الاستهلاك…الخ). وجميع هذه المفاهيم تؤسس من وجهة نظر خاصة، تصورات، غالبا ما لم ينظر إليها مجتمعة مترابطة ومتفاعلة، بقدر ما نظر إليها منعزلة ومفصولة عن بعضها بعضا. من هنا يأتي طرح مفهوم تعدد الأنساق بوصفه بديلا ينظر إلى الظاهرة الأدبية باعتبارها نسقا، أو بالأصح نسقا كليا (Système globale) تتفاعل داخله أنساق فرعية (sous-système) أو جزئية ولا يشكل هذا النسق الكلي بدوره سوى نسق مصغر (Micro-système) مندرج داخل نسق أكبر (Maroc-système). وأخص ما يمتاز تعدد الأنساق ذاك هو الحركية والانتظام والدينامية الناتجة عن تفاعل العناصر المكونة له (الأنساق الفرعية). إنه بتعبير أصح كل معقلن لا مكان فيه للاعتباطية والصدفة. فلا شيء فيه معطى بل مبني وتلك سمة الأنساق المنفتحة والدينامية التي يعتبر كـ.موزان، الظاهرة الأدبية أنصع نموذج عنها. وضمن هذا الإطار النظري يمكن موضعة المقال التالي الذي يعتبر صورة مصغرة لأطروحات موزان الواردة في مؤلفه القيم: (ما التاريخ الأدبي؟ 1987، منشورات الجامعة الفرنسية)، الذي انتهينا من إنجاز ترجمته ودراسته إلى اللغة العربية.


المتن المترجم:

إن على الخصب الجلي للمعرفة الإنسانية، أي خصب "النماذج المنطقية-الرياضية التي تمت البرهنة على فعاليتها، على الأقل بسماحها لنا بلوغ القمر"


[1]، -حسب كريماس (A.J.Greimas)- أن لا يخفي عنا هشاشة معرفتنا وكفاءتنا المعرفية. ويواصل كريماس "نحن واعون بأن كل نظرية ومنها، على الأخص، تلك التي تدعم العلوم الإنسانية، تتأسس على مجموعة من المفاهيم اللامحددة. ونحن على دراية بأن هذه المفاهيم اللامحددة، رغم انبنائها على بديهية ما، هي بعيدة عن تؤسس، بشكل من الأشكال، علما كيفما كانت طبيعته، فهي لا تصلح سوى لتوضيح شروط ممارستها […] وإن بديهية مؤسسة على افتراضات مسبقة من هذا النوع لن تزودنا إلا بمفاهيم إجرائية. من ثم تتسلل نسبية ما إلى نظرياتنا السيميائية أو اللسانية التي يتعذر أن تثمن قيمة المعرفة فيها إلا في ضوء الفعل العلمي الراهن الذي هومهيأ، ونحن واعون بذلك، لأن يكون متجاوزا"[2].

ويواجه التاريخ الأدبي المشاكل النظرية نفسها. كما تعلق بتوجهه تلك النسبية التي تحدث عنها كريماس. فنحن لم نعد نعرف جيدا ما موضوعه؟ ولا كيف ندركه بكل معاني كلمة إدراك؟ لم نعد نعرف بأي تاريخ يتعلق الأمر؟ كما لم نعد نعرف ما تعنيه بدقة كلمة أدب نفسها. وإذا كان الحديث يروج، داخل التاريخ الأدبي، حول أزمة، فإن هذه الأخيرة تمس شعبا عديدة من النشاط الذهني، فضلا عن كونها تمس التاريخ بمعناه العام (Fille de clio)(*). ولحل الأزمة يجب، بادئ ذي بدء، التساؤل عما إذا كان أو من الممكن أن يصبح التاريخ الأدبي فعلا (Faire) ومعرفة فعل علمية تفسح المجال لخطاب حقيقي يكون شكلا من أشكال التواصل المتضمن أو المنتج لمعنى أو معان. لنتفق بادئ ذي بدء: إن كلمة "علم" لا تعني اليوم ما كان يعنيه بها جان جاك أمبير (J.J.AMPERE) عام 1834 حينما رام رفع الأدب إلى مستوى العلم[3]، علاوة عن أن صفة "علمي" فضفاضة كلما اقترنت بموضوع معين. ولنقل ببساطة إن كلمة علم تفترض موضوعا ترمي إليه وإلى فهمه ومنهجا يسمح ببلوغه. وفي هذه الحالة إن المعرفة ليست مبنية بحيث لا يبقى سوى القيام بتطبيق أو تطبيقات، بل إن المعرفة هي ما ينبغي بناؤه، وبالتالي فهي تتوقف على قدرة أولية تقدم نفسها في شكل فرضية أساس، ومتوالية من الفرضيات الخاصة التي تستمد منها النتائج على نحو استقرائي. وفي هذه الحالة يصير التوجه كشفيا فاسحا المجال لنماذج متوقعة من النتائج التي لم تكن بالحسبان. لنأخذ نموذجا من هذا التوجه المسعف في بناء موضوعنا. فلكي يوضح هانس روبير ياوس (H.R.Yauss) بأن نظريته في التلقي نسق، نجده يتشبث سنة 1978 بفكرة النسق عند سوسير (F.De Saussure): "يعمل الإنتاج والتلقي الأدبيان بالطريقة ذاتها التي يعمل بها الكلام واللسان، من تم أمكن صوغ التاريخ الأدبي كنسق مؤلف من سلسلة من الأقسام التزامنية (Synchronique) وكذا ترجمة مجموع الأعمال المستقلة التي تتبادل التأثير باستمرار داخل تاريخ بنيوي للأدب ولوظائفه[4] والفرضية العامة التي اقترحها ياوس هي صوغ التاريخ بوصفه نسقا(*).

وإذا ما اعتبرنا تلك الفرضية قوة أولية، فإن على هذه الأخيرة أن تسعف في بناء معرفة.

قد يقال إنني أتحدث عن النسق! كلا فثمة آخرون –قبلي وقبل ياوس- تحدثوا بدورهم عن الأنساق. لكن هذه المرة بصيغة الجمع. فقد قال لانسون –وهو بصدد التذكير بنظريتي تين (Tain) وبرونتيير (Brunetière)- بأنه لن يقدم على "نقد نسقيهما مرة أخرى"[5]، مشيرا بذلك إلى نوع من المسخ لإجراءات وقواعد العلوم الفيزيائية الطبيعية التي كان يستلهمانها. ويواصل لانسون: إن أسوأ شيء على التاريخ الأدبي تجنبه هو تقليد المباحث المعرفية الأخرى. وحينما يستمد هو نفسه من علم الاجتماع (Sociologie) القوانين الستة الكبرى العامة للتاريخ الأدبي، فإنه يجهد نفسه مرة أخرى لتوضيح "أنها هنا ظلال قوانين" و"معادلات مجردة للوقائع […] كيفما كانت طبيعتها فهي تسعف، لا أقول في تفسير الوقائع (لم لا) وإنما في تأملها وتقديم وجهات نظر لمساءلتها عن كثب ودراسة صلاتها وآليتها بكل دقة. كما أن في وسعها أن تقدم فكرة عن طبيعة التعميمات التي من المجدي اختبارها في التاريخ الأدبي. ولفظتا "الروابط" و"الآلية" المذكورتان هنا تنتميان إلى نسقية (Systèmisme) تعبر عنهما بلفظتي "علائق" و"اشتغال"، وتعتبر القوانين المكتشفة داخلها "قوانين مندرجة في الوقائع وداخلية نوعا ما ومطابقة لها هي وحدها ما يمكن بناؤه"[6]. وهنا يتحدث لانسون –دون علم منه- كمنظر للأنساق!

فإلى عهد قريب، وحتى في سنوات الستين استنتج جنيت (G.Genette) وهو بصدد التذكير بإرث الشكلانيين الروس ما يلي: "يصبح التاريخ الأدبي وفق هذا الفهم تاريخ نسق… فتطور الوظائف هو الذي يكون دالا وليس تطور العناصر. وإن معرفة العلائق التزامنية يسبق، حتما، معرفة الإجراءات"[7]. وهل علينا أن نضيف إلى ذلك أنه في الفترة ذاتها كان بيير بورديو (P.Bourdieu) يبلور مشروعا لدراسة الحقل الثقافي حيث طرح ضرورة تجاوز التعارض القائم بين جمالية ذاتية تفرض نفسها في تناول الأثر كنسق يحمل في أحشائه علة وجوده، محددا هو نفسه، داخل انسجامه، مبادئ ومعايير تفكيكه وبين جمالية خارجية غالبا ما تجهد نفسها لقاء تشويه اختزالي في ربط العمل بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإبداع الفني"[8] وأن الحقل الثقافي كما يصفه بورديو "غير قابل لأن يختزل إلى ركام بسيط من العوامل المنعزلة وإلى مجموع إضافي من العناصر المتجاورة ليس إلا"، أي إلى نسق منغلق. بل على العكس من ذلك و"على غرار الحقل المغناطيسي يشكل الحقل الثقافي نسق خطوط قوى(*) بمعنى أن العوامل والأنساق العاملية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من الحقل الثقافي في مكنتها أن توصف باعتبارها قوى متعددة تتعارض وتتكون بمجرد انطراحها، مانحة إياه بنية خاصة في فترة زمنية معينة"[9]. وبتعبير آخر، إن الحقل الثقافي هو "نسق علاقات تتوطد بين عوامل نسق الإنتاج الفكري"[10] وهذه العوامل هي التي تؤلف النسق ذاته: نقاد، كتبيون، ناشرون، أساتذة بيداغوجيون، معلقون إذاعيون وتلفزيون، عوامل الأخبار الأدبي…الخ. ولا تخفى امتدادات هذه الفكرة في التمييز الذي يقيمه بورديو بين الحقلين المؤسسين للنسق المذكور. فهذان الحقلان يقومان على التعارض والتكامل بين ما هو تجاري وما ليس كذلك، سواء أتعلق الأمر بحقل الإنتاج الضخم أم بحقل الإنتاج الجماهيري أم حقل الإنتاج المحدود الذي تتناوله تواريخ الأدب على وجه الخصوص، ويوضح بورديو: "علينا الاحتراس من أن نرى في التعارض القائم بين هذين النوعين من إنتاج المكاسب الرمزية التي يتعذر أن تحدد كلها إلا في/عبر علاقاتها، شيئا آخر يختلف عن إنتاج بنية ما للعبور إلى الحد الأقصى. إذ توجد داخل نفس النسق كل الوسائط بين الأعمال المنتجة من خلال الإحالة إلى معايير ذاتية لحقل الإنتاج المحدود وبين الأعمال المحكومة بتمثيل حدسي أو مصاغة –على نحو علمي- من توقعات جمهور عريض جدا"[11].

وهنا وهناك يتم الاعتراف بتأثير صوسير الذي يعتبر اللسان "نسقا تصبح فيه جميع الكلمات متلازمة بحيث لا تنجم قيمة إحداها إلا عبر الحضور المتزامن للكلمات الأخرى"[12]. وهذا التأثير يوضح فكرة تعالق العناصر التي تشكل كلا منتظما عبر الإحالة إلى اللسانيات بوصفها موضوعا. "إنه لوهم كبير أن نعتبر كلمة ما مجرد اتحاد صوت ما مع مفهوم معين. وتحديدها على هذا النحو يعني عزل الكلمة عن النسق الذي تنتمي إليه، أي الاعتقاد بإمكانية البدء بالكلمات وبناء النسق عبر جمع تلك الكلمات، في حين علينا، خلافا لذلك، الانطلاق من الكل المتلازم للحصول، بواسطة التحليل، على العناصر التي يشتمل عليها الكل"[13].

فمن جهة أولى يلاحظ هنا بوضوح بروز خطاطة الوهم التاريخي للتاريخ الأدبي خصوصا في اعتباره الأدب (الكلمة) بمثابة اتحاد فكرة ما عن الإنسان أو الأثر أو عنهما معا مع فكرة ما عن المجتمع تقدم التاريخ بوصفه نسقا منغلقا، ومن جهة ثانية بروز تاريخ أدبي مختلف يجعل منطلقه الكل المدرك كتشكيل وتنظيم للعناصر التي يسمح داخلها التعالق بتحديد الظاهرة الأدبية في مجموعها بدل عزلها عن النسق الكلي والإيهام بأن مجموع الكتاب والآثار الأدبية هو الذي يسمح ببناء النسق.

إن مصطلح "الظاهرة الأدبية" الذي أتيت على استعماله، هذا المصطلح الشديد الالتباس والتجريد في آن واحد ليحل، في تصوري، محل مصطلح الأدب الأكثر تجريدا وانتشارا، والذي يتضمن كل شيء من غير أن يدل على شيء محدد. وقد لاحظ روبير إسكاربيت (R.Escarpit) أن "المفهوم المزدوج للأدب يمتلك محتوى دلاليا واسعا جدا بقدر ما هو غير متماسك"[14]. وربما لهذا السبب أيضا كان لانسون يتحدث عن "الظاهرة الأدبية" حينما تناولها بوصفها "واقعة اجتماعية في جوهرها"[15]. وتكمن مزية هذا التحول على المستوى الاصطلاحي في اعتبار الأدب ضمن تمظهره المحسوس بالدرجة الأولى، موضوعا قابلا للتجريب في المكان والزمان (كانط) واعتباره في الدرجة الثانية، في تمظهره الفكري، كإسقاط لنفس الموضوع داخل النظام الجدلي للتوجه النظري وداخل النظام المنطقي للتوجه التحليلي. وهكذا يصبح التاريخ الأدبي تأريخا للظاهرة الأدبية أي تأريخا لهذا النشاط الإنتاجي ونشر النصوص وتلقيها من قبل أفراد مشروطين هم أنفسهم بوجودهم الفيزيقي والاجتماعي والسياسي وبتاريخهم الخاص.

إنه تاريخ هذه النصوص المتموضعة داخل فضاء اجتماعي يستثمرها (المجتمع داخل النص) وحيث هي مندرجة (النص داخل المجتمع)، تاريخ النصوص المشرعة والمقررة من قبل سلطات من بينها مثلا: المدرسة والتعليم والنقد. وفي ضوء المكانة والوضع اللذين تحظى بهما كل هذه الثوابت على حدة، فإن التاريخ الأدبي المفهوم والمكتوب يختلف كثيرا من فترة إلى أخرى ومن كاتب إلى آخر وتبعا للجمهور الذي يتوجه إليه المؤرخون بالخطاب. إن لانسون مثلا هو مؤلف تاريخ الأدب (1894) الموجه لطلبة السلك الثانوي حيث كان يلقي دروسه، فيما سيكون لانسون الثاني –الأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة وبالسربون- هو المنظر للتاريخ الأدبي العالم (Savante)، وذلك بفضل منهجه الصارم ووظائفه المميزة اللذين سخر منهما زمن معركة الجذاذات سنة 1910. وكما أوضح أنطوان كومبانون (A. Compagnon)[16]: إن ما كان لانسون يرغب في الجمع بينه، مدرسا بالثانوي وبالجامعة، سرعان ما جزأه. وهو ما اعترف به لانسون في جملة، طالما استشهد بها: "إن التاريخ الأدبي آفة في السلك الثانوي". غير أن السلك الثانوي سيغدو في القرن العشرين المكان الحقيقي للتاريخ الأدبي أي للكتب المدرسية المخصصة لتلقين الفرنسية، فيما سيتخصص السلك الجامعي في التواريخ الكبيرة، كتاريخ جولفيل الصغير أو تاريخ كالفي المشتمل على أحد عشر جزءا أو المنشورات الاجتماعية ولا روس بالنسبة لعصرنا. وتوجد على الهامش بعض التواريخ المزيفة للكتاب كتاريخ بول كوت (P.Guth) حيث تتفتق الأصالة من بعض الحريات ذات النبرة الجادة ومن طرح للتقاليد المدرسية والجامعية، ومن بعض المؤاخذات المهجورة أو المغلوطة، وذلك بهدف زخرفة الطبق أو بهدف إعطائه مذاقا معينا. ومع ذلك لا تشكو الوصفة من نقص في الملح. لقد عودنا كليبر هايدن (Kleber Haedens) على هذه الطريقة في إعداد تواريخه.

إننا مازلنا نقتات من بقايا ما تركه لانسون ولما نستثمر بعد كل ما قدمه من إمكانات. وتحضرنا هنا –بصفة خاصة- "فكرة برنامجه الدراسي حول التاريخ المحلي للحياة الأدبية في فرنسا"[17]، تلك الفكرة التي تأسف بارث (R. Barths) وجنيت، ومن قبلهما لوسيان فيبر (Lucien febvre) عن عدم تحقيقها أو إتمامها. ولإنجاز تاريخ هذه الحياة الأدبية يجب ألا نعتبره، فحسب، تاريخا للظاهرة الأدبية التي سبق الحديث عنها، بل أيضا أن نتناوله، حسب فرضية ياوس، التي أعاد جنيت صياغتها أي إدراكها باعتبارها نسقا، وبهذا نتخلى عن فكرتي: التطور والتقدم الأثيرتين لدى التاريخ الأدبي التقليدي، لننتهي إلى فكرة الحركة التي ترتبط فكرة السكون (Ropos)، وبالتالي ننتهي إلى إدخال فكرتي الحركة والسكونية، اللتين تعتبران جوهر الأنساق. لطالما سخر من فكرة النسق بوصفها كلمة أو شيئا، مطبقة على العلوم الاجتماعية والإنسانية. وتعنى مسلمة "كل شيء نسق" عند بعضهم "الكل مندرج في الكل على نحو متبادل، والكل متصل بالكل والعكس صحيح". بيد أن هذه الترهات التي تحط وتقلل من شأن التوجه النسقي لم يتردد كل من ليفي ستراوس ولاكان وغيرهما من اللجوء إليها بوضوح.

لنذكر أولا ببعض المفاهيم التي ستسمح بموضعة فكرة النسق. وإن من يقول "نسقا" يقصد مجموعة عناصر يمكنها أن تكون طبيعية أو فيزيقية أو إنسانية أو فكرية أو غيرها. ومن يقول بفكرة "النسق" يقول، أيضا، بتنظيم وتجميع هذه العناصر، وأنماط التجميع المشكلة لاشتغال المجموع أو سيره. وفي نهاية المطاف، كل شيء نسق، أي أن كل شيء وكل كائن مكون من أجزاء وعناصر منتظمة فيما بينها. ويتضمن هذا الاشتغال سلسلة من القواعد والشفرات والمسلكيات المتوقفة على العلاقات والتعالقات الموجودة بين العناصر، فضلا عن المواقع التي تحتلها.

وهكذا يبرز نموذج مفهومي شكل ومادة للتنظيم يسمح بدراسة (وتعميم) اشتغال نسق معين أو مسلكيته. وهكذا نفترض، في المنطلق، كون حياة النسق ليست حياة ظاهرة ومرئية وقابلة للضبط، بقدر ما يتعين تحليلها وتقطيعها بغية تجليتها.

ومن أجل صياغة مفهومية (Conceptualiser) للنسق الحقيقي للتاريخ الأدبي ينبغي استحضار مفهومين آخرين هما: الحقل النظري، المكون من مفاهيم ونظريات ومسلمات تساعدكلها على بناء نموذج أو نماذج، والحقل التجريبي المشكل من مجموعة معطيات يعمد إلى إدخالها في بناء النموذج.

ويعتبر النموذج وسيطا بين ما هو أشد محسوسية أي الحقل التجريبي: (الوقائع الأدبية والاجتماعية) وبين ما هو أشد تجريدا، أي الحقل النظري: (المفاهيم والأفكار الأدبية والاجتماعية والأنساقية). ويفيد النموذج كمؤول لغايات معرفية، مثل الممثل تقريبا في ضمانه –عبر الإيماء والصوت- كينونة النص. وفي حالة النموذج التمثيلي المتحدث عنه فإنه عنصر إيجابي تعمل كينونته على اختبار انسجام النظرية. لقد حدد باشلار (G.Bachelard) النموذج باعتباره محركا هاما ضمن هذا التوجه للعلوم العقلية المنطلقة من النظرية نحو الوقائع، وذلك بتطبيقها على المفاهيم. وإن توضيح وظيفة النموذج ليعني التساؤل حول القدرة على التبيين والتصوير والتمثيل بواسطة اللغة. هكذا يكون النموذج تخييلا مراقبا، لأنه غير موجه نحو لذة المعرفة فحسب، بل أيضا نحو إدراك الموضوع والبحث.

من ثم سيتشكل نسق التاريخ الأدبي من نسقين: نسق منغلق، أي نسق التاريخ الأدبي المسمى تقليديا ونسق منفتح أي نسق التاريخ الأدبي المدرك كأنساق متعددة. ويتمثل النسق المنغلق في اختزاله الكل إلى مجموع أجزائه. وللتبسيط نقول: إن التاريخ التقليدي هو مجموع كل العصور الأدبية، بدءا بالعصر الوسيط (أو العصور القديمة) حتى أيامنا ويحدث توازن النسق حينما تبلغ الأنثروبيا(*) (Entropie) مداها الأقصى.

فبالنسبة للأدب الفرنسي تعتبر الفترة الممتدة من العصر الوسيط إلى القرن السابع عشر فترة ارتقاء وصعود تصل إلى حدود الفترة الذهبية من ملك لويس الرابع عشر. وترتد هذه السيرورة بزوال القرن السابع عشر واستهلال القرن التاسع عشر… الخ. الشيء الذي سيجعل النسق غير غائي وبالتالي مجردا من الغائية والقصدية والقسمة المطبقة على المؤلف والحركة والعصر والأدب كله هي قسمة ثلاثية مألوفة في المؤلفات: نشأة – أوج – اضمحلال. ويعتبر الأدب، ضمن هذا النوع من الأنساق كآلة ثابتة ترى من الخارج، بيد أن قدرتها لم تعدل بتاتا من قبل هذه الرؤية.

وعلى عكس النسق المنغلق يعتبر النسق المنفتح نسقا فكريا وواقعيا في ذات الوقت، ويتعلق الأمر بتنظيم حي أو بتنظيم متضمن للحياة والحركة والتبادل والعلاقة. فلاستمرار النسق ينبغي على التنظيم أن يتقبل ويمنح باستمرار الطاقة والمادة والأخبار. إنه نسق معقد، إذن، يتموضع في مستوى أعلى، وفي وضعية من اللاحتمالية أو اللاتوقعية. ويزودنا التواصل بالسنن الذي يصف الكيفية التي يجب على المادة أن تنتظم بها، وكذا طبيعة الوظائف التي يجب أن تفرض (تقرر) حتى تحافظ على ذاتها بنفسها. إن عدم التوازن شيء ممكن دائما حتى داخل الأنساق الصارمة. فالنسق (الأنساق) المنفتح(ة) يتحول بدوره ليتجه نحو تعقيد متزايد ونحو ترابط داخلي واختلافية تراتبية. ويمكن أن يعتبر النسق المنفتح بمثابة شبكة وتراتبية متعددة المستويات.

وعلى هذا النحو (أي نسق منفتح في مقابل نسق منغلق) يفهم رومان جاكبسون (R.Jakobson) ليفي ستراوس (Henri.Strauss) قصيدة "القطط" لبودلير، التي قارباها كنسق منفتح في نمو دينامي من البداية حتى النهاية[18]. وطبقا لهذا النموذج سيغدو التاريخ الأدبي تحليلا للظاهرة الأدبية المدركة باعتبارها نصا. وسوف يحدد التاريخ الأدبي، بوصفه نسقا منفتحا- موضوعه –الأدب- كموضوع غير متجانس (الأدب والمجتمع) وكموضوع منظم (نظام، تراتبية، علاقات العناصر، علاوة على علاقات المراقبة والقواعد) في الآن ذاته. وتكمن إحدى ميزات النسق المنفتح في قدرته على إيجاد وصيانة نظام ما داخل عالم مؤلف من مكونات مختلفة وفي تعبير دائم. فالتنظيم يدل، دوما، على النظام والفوضى والأنثروبيا. إن مزية مقاربة من هذا النوع هي قدرتها على التحليل وتقييم الموضوع –الأدب أو الظاهرة الأدبية- في وظافته (Fonctionalité) (وديناميته) ومقصديته (غاياته وأهدافه) وخاصيته العضوية (Organicité) و(تحولاته). وعلى هذا النحو تقترن مقتضيات التاريخ الأدبي (التعاقبية/التزامنية) بمقتضيات التداول الأدبي (العمل على الموضوع بهدف اختبار الأفكار المكونة عنه). وبالمثل نكون قد طرحنا جانبا التحليل والمقاربة البنيويتين اللتين لم تقدما شيئا يذكر، على الأقل في صيغتهما النقدية، من أجل حل مشاكل التاريخ الأدبي التقليدي. إن التحليل النسقي يسمح بصرف الاهتمام نحو مجموع هام من العناصر، وكذا نحو القدرة على الاهتمام بها مجتمعة أو منعزلة في ذات الوقت. وعليه لن يكون التحليل تائها وسط ركام من التفاصيل، كما أنه لن يضل طريقه في تناول كتلة ضخمة من العناصر المتنافرة أو المفتقرة إلى أنموذج واضح. وفي نهاية المطاف تجعل دراسة جميع العناصر في علائقها وتعالقاتها وتنظيمها، التعميمات الممكنة.

وهكذا لن نكون أبدا (وهل هذه أمنية؟) بصدد الفرضيات التعميمية التي طالما أوخذ عليها التاريخ الأدبي التقليدي ولربما أمكننا الحديث، إذن، عن تاريخ أدبي باعتباره خطابا علميا. وهو ما لا يعني كونه خطابا محايدا وموضوعياn

 

 



[1] أ.ج كريماس، (عن التاريخ الحدثي والتاريخ الأساسي)، ضمن كتاب الدلائلية والعلوم الإنسانية، باريس، منشورات Seuil، 1976، ص198.

[2] نفسه، ص192.

(*) Fille de clio اسم يشير إلى ربة التاريخ عند اليونان القدماء.

[3] جان جاك أمبير، عن تاريخ الأدب الفرنسي، مزيج من تاريخ الأدب والأدب، باريس، منشورات Michel Levy، 1834، 1867، ص123.

[4] هانس روبيرياوس، نحو جمالية للتلقي، باريس، منشورات Gallimard، 1978، ص245.

(*) راهن ياوس على قراءة تاريخية لمجموع الآثار الأدبية عبر ما أسماه: تاريخ القراءات الأدبية، راجع بصفة خاصة: المقالة الأولى من كتابه نحو جمالية للتلقي بعنوان (تاريخ الأدب، تحد لنظرية الأدب).

[5] كوستاف لانسون: دراسات في المنهج والنقد والتاريخ الأدبي. جمعها: هنري بير، باريس، منشورات Hachette، 1965، ص40.

[6] نفسه، ص80.

[7] جيرارا جنيت: البلاغة والتعليم، II، باريس منشورات Seuil، 1966، ص168.

[8] بيير بورديو، عشق الفن، باريس، منشورات Minuit، 1966، ص905.

(*) خطوط القوى: مصطلح فيزيائي يدل على الشكل الذي تأخذه اتجاهات الخطوط في المنحنى المقوس بتماسها وتقاطعها.

[9] نفسه، ص867.

[10] نفسه، ص870.

[11] (سوق المكاسب الرمزية)، مجلة حولية علم الاجتماع، ع22، 1971، ص85.

[12] فيرديناند ده صوسير، دروس في علم اللغة العام، 1916، باريس، منشورات Payot، 1974، ص159.

[13] نفسه، ص157.

[14] روبير إسكاربيت: (تعريف مصطلح أدب)، ضمن كتاب الأدبي والاجتماعي، باريس، منشورات Flammarion، 1970، ص259-272.

[15] لانسون، المرجع السابق، ص68.

[16] أنطوان كومبانون: الجمهورية الثالثة للآداب: من فلوبير إلى بروست، باريس، منشورات Seuil، 1983، ص83 وما يليها.

[17] مداخلة قدمت يوم 17 فبراير 1903 بجمعية التاريخ الحديث، ونشرت السنة نفسها في مجلة الجمعية، وأعيد نشرها في كتاب دراسات في التاريخ الأدبي، باريس، منشورات Champion 1929، وكذا في كتاب: دراسات في المنهج والنقد والتاريخ الأدبي، باريس، منشورات Hachette 1961، ص81-87.

(*) أنثروبيا: يعود المصطلح إلى الحقل  الفيزيائي، خاصة في مجال الديناميكا الحرارية. وفيها يتم تحديد حالة الاختلال داخل نسق معين حينما يتطور إلى حالة أخرى من خلال الاختلال المتزايد. وتزداد الأنثروبيا في التحول الذي يأخذ اتجاها واحدا. وحينذاك يميز الفيزيائيون بين أنثروبيا سالبة وأخرى ثابتة.

[18] رومان جاكبسون: قضايا الشعرية، باريس، منشورات Seuil، 1973، ص416.