ص1      الفهرس    21-30

 

بعض الخصائص الدلالية في اللغة العربية

 

محمد غاليم

 

إن نسق قواعد سلامة التصورات يسمح, من ضمن ما يسمح به,بإعطاء منزلة دالة وطبيعية لمفهوم المقارنة بين اللغات الطبيعية. فما دام النسق يتنبأ مبدئيا بالممكن من التصورات في اللغات, فإن هذه الأخيرة لا تختلف إلا في إطار هذا الممكن وليس بكيفية اعتباطية؛ فتختلف في ما تحققه أو لا تحققه من بنيات ممكنة داخل النسق؛ أي أنها تختلف في مستوى قواعد التوافق بين البنية التصورية والبنية التركيبية, فنجد أنفسنا أمام بنيات تصورية تتحقق أو تمعجم في بعض اللغات –فتكون جزءا من المعجم الذي هو جزء من مكون قواعد التوافق- ولا تمعجم في لغات أخرى(2).

 

1 – إطار التخصص

اللغة ملكة من خصائصها الإبداع, أي القدرة على إنتاج (وفهم) عدد لا محدود من البنيات التركيبية (أو الجمل) السليمة التي لم يسبق للمتكلم أن سمعها من قبل. ويوافق هذا التنوع اللامحدود في البنيات التركيبية تنوع لا محدود في البنيات التصورية المعبر عنها. ومن ثمة, يتعذر, من جهة, تخصيص مخزون المتكلم من البنيات التركيبية والتصورية في لائحة محدودة, كما يتعذر, من جهة أخرى, تخصيصه في مجموعة لا محدودة من البنيات الممكنة, مادام يجب التمثيل له في دماغ بشري محدود. لذلك وجب أن يمثل لهذا المخزون من البنيات في الذهن باعتباره نسقا محدودا قوامه مجموعة محدودة من الأوليات ومجموعة محدودة من مبادئ تأليف هذه الأوليات, فتولد المجموعتان معا طبقة البنيات الممكنة. ويتخذ هذا النسق, في مجال المعرفة التصورية, صورة مجموعتين محدودتين من الأوليات التصورية ومبادئ تأليفها تولدان مجموعة التصورات التي تعبر عنها الجمل, وتجعلانها ممكنة في تنوعها اللامحدود وقابلة للتعلم على أساس تضافر التجربة اللغوية وغير اللغوية.

الأوليات التصورية مكونات تمثيلية ذهنية محدودة تسمح للذهن البشري ببنينة "العالم", منها مقولات: الشيء والمكان والحدث والعمل والمسار والحالة والخاصية والمقدار والزمن… الخ. وهي بمثابة أقسام كلم دلالية تعين المقولات الأنطولوجية الكبرى وتخصص الفرق بين طبقاتها الرئيسية التي نعتبر, بحكم هندسة أذهاننا, أن "العالم" يتضمنها.

ومن الأوليات التصورية أيضا مجموعة محدودة من الدالات القاعدية functions التي تعالق بين المكونات التصورية السابقة, مثل دالات الحدث والعمل والحالة والمكان والمسار والزمن(1). فاللغات الطبيعية, بناء على هذا الافتراض, تشترك في هذا المخزون الكلي من الأوليات التصورية (أو سمات المقولات الأنطولوجية الكبرى) وتبني تصوراتها على أساسه.

أما مبادئ التأليف فتستعمل الأوليات التصورية لتكوين بنيات تصورية. وأساس هذه المبادئ مبدأ تأليف الدالات الذي تعتبر بموجبه بنية أية وحدة معجمية دالة تملك صفرا أو أكثر من الموضوعات. فيتحصل من الأوليات التصورية ومن مبدأ تأليف الدالات نسق من قواعد سلامة التصورات التي يفترض أنها قواعد كلية تشكل مخزونا كليا من البنيات الممكنة تستعمله اللغات الطبيعية. وتتكفل هذه القواعد بضبط مكونات الأوليات التصورية الآنفة الذكر واختلافاتها وبتقديم حساب للعلاقات بينها. فهذه القواعد هي التي تحدد مثلا أن المكان يحوي الشيء وأن الشيء يحل بالمكان أو يعبر المسار, وأن الحدث يضم أشياء وأمكنة, وأن العمل يضم أشياء وأحداثا… الخ. وتكون صورة هذه القواعد التي تقوم, إذن, بتأليف الدالات وموضوعاتها لتكوين ما لا حصر له من البنيات التصورية السليمة, مماثلة لصورة القواعد المركبية المعروفة. وهذه قواعد تكوين تصورات المكان والمسار والحدث والعمل والحالة نوردها مبسطة مع أمثلتها كالتالي:

(1) أ ـ مكان --< دالة مكان ( س )

                                شيء 

   ب ـ في الدار

(2) أ ـ مسار --< دالة مسار ( ص )

                                مكان

   ب ـ إلى الدار

(3) أ ـ حدث --< دالة حدث ( س , ص )

                                  شيء  مسار

   ب ـ سافر محمد إلى البيضاء

(4) أ ـ عمل --< دالة عمل ( س , ص )

                              شيء  حدث

   ب ـ أدخل خالد الطفل إلى الدار

(5) أ ـ حالة --< دالة حالة ( س , ص )

                               شيء  مكان

   ب ـ هند في الدار

إن نسق قواعد سلامة التصورات يسمح, من ضمن ما يسمح به,بإعطاء منزلة دالة وطبيعية لمفهوم المقارنة بين اللغات الطبيعية. فما دام النسق يتنبأ مبدئيا بالممكن من التصورات في اللغات, فإن هذه الأخيرة لا تختلف إلا في إطار هذا الممكن وليس بكيفية اعتباطية؛ فتختلف في ما تحققه أو لا تحققه من بنيات ممكنة داخل النسق؛ أي أنها تختلف في مستوى قواعد التوافق بين البنية التصورية والبنية التركيبية, فنجد أنفسنا أمام بنيات تصورية تتحقق أو تمعجم في بعض اللغات –فتكون جزءا من المعجم الذي هو جزء من مكون قواعد التوافق- ولا تمعجم في لغات أخرى(2).

والأمثلة التي نوردها, في ما يلي, عن الخصائص الدلالية للغة العربية, تدخل في الإطار الذي تم تحديده, وتتعلق ببنيات تصورية تحققها اللغة العربية –فتصير جزءا من معجمها- دون بعض اللغات الأخرى؛ مثلما هناك بنيات تحققها بعض اللغات دون اللغة العربية.

2 – بنيات ممعجمة:

من قواعد تكوين تصور الحدث في حقل أفعال الحركة الفضائية, القاعدة(3), سابقا, التي تحدد ذهاب شيء معين للحلول بمكان معين. ونجد في لغات مختلفة أفعالا تحقق هذه البنية, مثل: رحل وذهب وسافر وpartir وvoyager وto go وto travel… الخ. ومن إمكانات تحقق القاعدة المذكورة إمكان معجمة هدف المسار, حين يكون علما على مكان, داخل الفعل فيصير مضمنا فيه. فتقول في اللغة العربية:

(6) أ ـ بصر زيد

  ب ـ مصر عمرو

  ج ـ أشأم خالد

أي ذهب إلى البصرة ومصر والشام… ولا مانع مبدئيا من إمكان توليد أفعال في اللغة العربية حاليا على هذا النمط كلما احتيج إلى ذلك. وهذا بخلاف لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية اللتين لا تحققان هذا الإمكان, فلا تقول في الأولى: francer  أو pariser بمعنى: ذهب إلى France أو إلى Paris؛ ولا تقول في الثانية: To England أو to London بمعنى: ذهب إلى England أو إلى London.

ونجد في نفس الحقل كذلك أن اللغة العربية تملك أفعالا تمعجم هدف المسار حين يكون اسما من أسماء الجهات الأربع, نحو:

(7)(شرقت, غربت, جنبت, شملت) الريح

وفي حقل آخر مثل حقل الزمن تملك اللغات أفعالا تمعجم هدف المسار حين يكون اسما من أسماء الفصول الأربعة. فتشترك اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية مثلا في امتلاك أفعال تمعجم الصيف والشتاء. فتقول في العربية: أصاف وأشتى؛ وتقول في الفرنسية: estiver وhiberner. وفي الإنجليزية: to summer و to hibernate. لكن اللغة العربية, بخلاف الفرنسية والإنجليزية, تمعجم أيضا الخريف والربيع في فعلي: أخرف وأربع.

إذا أخذنا القاعدة(5), سابقا, التي تحدد تكوين تصور الحالة, في حقل مثل حقل التعيين الذي يكون فيه العنصر: ص خاصية تسند إلى العنصر: س, نجد في اللغة العربية افعالا تمعجم العنصر: ص حين يكون خاصية مثل: العِظَم والكِبَر والصِّغَر والحُسن والقِصَر… الخ. فتقول:

(8)(عظُم, كبُر, صغُر, حسُن, قصُر) زيد

بمعنى: كان عظيما وكبيرا وصغيرا وحسنا وقصيرا, في قراءة من قراءاتها على الأقل, وليس: صار كذلك. ولا تحقق لغات أخرى, فيما يبدو, هذا الإمكان, مثل الفرنسية والإنجليزية اللتين تملكان أفعالا تمعجم خصائص مثل الخصائص المذكورة, لكنها لا تدل على حالات وإنما على صيرورات تقتضي تغيرا في الزمن, مثل: grandir وto shorten اللازمين الذين يعنيان تباعا: صار كبيرا وصار قصيرا وليس: كان كذلك.

ويبدو أيضا أن اللغة العربية, مثل لغات أخرى منها لغات البانتو, تخالف الفرنسية والإنجليزية في امتلاكها أفعالا تمعجم خصائص نفسية (أو انفعالية) باعتبارها حالات لا تقتضي صيرورة زمنية معينة, مثل: فرِح وغضِب وحزِن, أي: كان كذلك. فلا تعبر الفرنسية والإنجليزية عن مثل هذا إلا بنحو:

(9)أ ـ Jean est joyeux (en colère, triste)

  ب ـ John is happy (sad, angry)

أما نحو: s’attrister في الفرنسية, فيعني صيرورة؛ وكذلك: to sadden اللازم في الإنجليزية الذي يعني: صار حزينا.

ومثل هذا الأفعال الدالة في اللغة العربية على حالات تمعجم الألوان, نحو: حمِر وصفِر وزرِق… فلا يوجد في الفرنسية فعل مثل: rouger أو bleuer أو jauner, بمعنى: كان أحمر أو أزرق أو أصفر؛ وإنما نجد: rougir وbleuir وjaunir التي تعني في اللزوم: صار أحمر أو أزرق أو أصفر. وكذلك في الإنجليزية حيث تعني أفعال لازمة مثل: to redden وto blue, صار أحمر وصار أزرق(3).

3 – قواعد إلحاق:

تتضمن اللغات أفعالا تعبر عن كيفيات حركية مخصوصة ولا تصف إلا الحركة الداخلية للفاعل فلا تستلزم شيئا بخصوص محله أو تغيير هذا المحل, أي لا تستلزم مسارا، وليست محمولة على دالة حدثية حركية (مثل: ذهب) تأخذ, كما تبين ذلك(3أ) سابقا, شيئا ومسارا. من هذه الأفعال في العربية والإنجليزية تباعا:

(10)أ ـ (سبح, قفز) زيد

  ب ـ John (swam, jumped, floated)

لذلك, فإن الدالة المرتبطة بهذه الأفعال لا تأخذ إلا موضوعا واحدا, ونفترض أنها كالتالي:

(11) تحرك ( س )

              شيء

إلا أننا نجد أفعالا من هذه الطبقة يمكن أن تتوارد مع عبارات مسارية هدفية, في اللغتين العربية والإجليزية نحو:

(12)أ ـ سبح زيد إلى الضفة الأخرى

  ب ـ John swam to shore

وذلك بخلاف لغات أخرى كالفرنسية والإسبانية. فلا تقول فيهما, على المعنى الذي يهمنا:

(13)أ* ـ la bouteille a flotté à la cave

    ب* ـ la botella floto a la cueva

ويجب أن تتضمن جمل مثل (13 أ ـ ب) فعلا للحركة الخارجية (يعبر عن الدالة: ذهب) وعبارة تفيد كيفية الحركة نحو:

(14)أ ـ la bouteille est entrée à la cave en flottant

    ب ـ la botella entro a la cueva flotando

وتفسير هذا الاختلاف أن العربية والإنجليزية تملكان بخلاف الفرنسية والإسبانية, قاعدة إلحاق تسمح بإدماج دالة ذهاب, اختياريا, في بنية أفعال كيفية الحركة مسوغة بذلك إمكان ظهور المركب الحرفي المساري. فتعبر الجمل المعنية عن بنية تصورية تتضمن في نفس الوقت الدالة: تحرك, باعتبار كيفية الحركة الداخلية, والدالة: ذهب, باعتبار الحركة الخارجية. فيكون الفاعل موضوعا للدالتين معا, إذ هو المتحرك داخليا والمتحرك خارجيا. لكن العبارة المسارية الهدفية تكون موضوعا للدالة: ذهب, وحدها. ويظهر ذلك في البنية التصورية التامة الممثلة للجمل المذكورة كالتالي:

(15) ذهب (أ, مسار) بـ (تحرك (أ))

ومفاد هذا أن الفرنسية والإسبانية تملكان بنية تركيبية مثل: فعل + مركب حرفي, لكن هذه البنية لا تسقط في بنية تصورية إذا كان الفعل من طبقة: تحرك, مادامت هاتان اللغتان لا تملكان وسيلة لتسويغ المركب الحرفي(4).

في اللغة العربية أيضا أفعال حالات لازمة تصف الهيئة الفضائية الداخلية للفاعل, نحو:

(16) (جلس, وقف) زيد

فتخصص وجود الفاعل على هيئة فضائية داخلية معينة هي الجلوس أو الوقوف. وتقوم مثل هذه البنيات على دالة حالة ذات محل واحد هي:

(17) هيئة (أ)

إلا أن أفعال هيئة فضائية من هذه الطبقة يمكن أن ترد في اللغة العربية, بخلاف لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية, مع عبارات مسارية نحو:

(18) (جلس, وقف) زيد إلى عمرو يحدثه

ويبدو لنا أن المسارات الواردة في مثل هذه الجمل مسارات وجهية من نوع المسارات التي تعبر عنها جملة مثل (19 أ) ببنية مثل (19 ب):

(19) أ ـ تتجه العلامة إلى اليمين

ب ـ وجه (أ, مسار)

فجمل مثل (18) لا تفترض تحرك الفاعل من نقطة إلى أخرى وإنما اتخاذه وجهة معينة وهو على هيئة مخصوصة هي الجلوس أو الوقوف. أي أنها تعني:

(20) توجه زيد, وهو (جالس, واقف) إلى عمرو يحدثه

ونفترض أن ما يسوغ جملا مثل (18) في اللغة العربية بخلاف لغات أخرى, وجود قاعدة إلحاق تسمح بإدماج دالة الوجهة, اختياريا, في بنية أفعال الهيئة. فتعبر الجمل المذكورة عن بنية تصورية تتضمن في نفس الوقت دالة الهيئة: هيئة, باعتبار الهيئة الفضائية, ودالة الوجهة: وجه, باعتبار التي يتخذها الفاعل. فيكون الفاعل موضوعا للدالتين معا, وتكون العبارة المسارية موضوعا لدالة الوجهة وحدها, كما يظهر في البنية التصورية التامة التالية:

(21) وجه (أ, مسار) بـ (هيئة (أ))

تلك بعض الخصائص الدلالية في اللغة العربية سقناها مختصرة للتمثيل. وهي لا تعدو أن تكون تحقيقا لإمكانات يسمح بها نسق كلي تشترك فيه كل اللغات الطبيعيةn

 

المراجع:

- الفاسي الفهري عبد القادر, اللسانيات واللغة العربية, دار توبقال للنشر, 1985.

- الفاسي الفهري عبد القادر, المعجم العربي, نماذج تحليلية جديدة, دار توبقال للنشر, 1986.

- الفاسي الفهري عبد القادر, المعجمة والتوسيط, نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية, المركز الثقافي العربي, 1987.

- غاليم محمد, التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم, درا توبقال للنشر, 1987.

- غاليم محمد, "عن الدلالة المقارنة", حوليات كلية اللغة العربية بمراكش, العدد السادس, 1995.

- غاليم محمد, "عن أفعال الوضع والإزالة وأفعال أخرى", ضمن كتاب: اللسانيات المقارنة واللغات في المغرب, منشورات كلية الآداب بالرباط, 1996.

- غاليم محمد, "بعض أفعال الهيئة وكيفية الحركة", ضمن كتاب: تمكين اللغات, التكنولوجيا والاتصال, منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط, 1997.

- غاليم محمد, المعنى والتوافق, مبادئ لتاصيل البحث الدلالي العربي, منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط, 1999.

- Carter, R. (1984), « On movement », In Carter (1988), On Linking, Papers by R.Carter, B.Levin and C.Tenny (eds) , Center for Cognitive Science Lexicon Project, MIT, Cambridge, MA.

- Jackendoff, R. (1983), Semantics and Cognition, MIT Press.

- Jackendoff, R. (1990), Semantic Structures, MIT Press.

- Jackendoff, R. (1997), The Architecture of the Language Faculty, MIT Press.

 

 



(2) انظر تفاصيل الإطار النظري في جاكندوف Jackendoff (1983) و(1990) و(1997), والفاسي الفهري (1985) و(1986) وغاليم (1987).

(1) وهناك عناصر أخرى ضمن الأوليات التصورية نتركها جانبا للاختصار, هي العلاقات المحورية (المتعلقة بالحركة والحلول) وعلاقات العمل (المتعلقة بالترابط بين المنفذ والضحية) وسمات الحقول الدلالية.

(2) انظر تفاصيل الإطار النظري في جاكندوف Jackendoff (1983) و(1990) و(1997), والفاسي الفهري (1985) و(1986) وغاليم (1987).

(3) وانظر غاليم (1995) و(1996), والفاسي الفهري (1997).

(4) انظر كارتر Carter (1984) وجاكندوف (1990) وغاليم (1997) و(1999) بخصوص الصياغة الصورية للبنيات المعنية ولقواعد الإلحاق.