ص1      الفهرس    المحور 

 

مفهوم التراجيديا عند نيتشه

إدريس جبري

تقديم:

عندما كان نيتشه يتحدث عن التراجيديا اليونانية، فإنه لم يكن يتحدث عنها بلغة أرسطية واصفة ولا بلغة تاريخية بارطية (نسبة إلى بارط R.Barthes) بل كان يتحدث عنها، بلغة فنان عاشق حتى الموت.

لقد كان نيتشه يداعب التراجيديا اليونانية، كما يداعب امرأة حسناء وبدلال طفولي. كان يغازل ماهيتها بعشق وشغف، ويلامس "جسدها" في انتشار صوفي… لكن، فجأة ما يكشر نيتشه كنسر جارح فيهاجم "طريدته" /الروح العلمية ويحاصرها من كل الجوانب فيهوي بمطرقته على العقل والحكمة ويعبث بالتفاؤل ويحاصره، فيتعالى على المألوف والاستكانة.

إن التراجيديا عند نيتشه، بؤرة الحياة الأبدية وانفتاح لا نهائي نحو الآفاق المجهولة. إن التراجيديا مقاومة للموت، وممارسة للذة في الألم. التراجيديا معانقة للمتعالي.

فعندما نقرأ نيتشه في كتابه "ميلاد التراجيديا" نكون أمام ازدواجية في اللغة مقرونة بازدواجية في الرؤية نفسها. بمعنى أن نيتشه عندما يتحدث عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهلييني، نلمس في لغته همسا شاعريا ونبرة شفافة، فتسري رعشات الانتعاش واللذة في جسد اللغة، ولكن مقابل ذلك حينما ينبري نحو سقراط وأفلاطون أو أوريبيد… نحس بالكلمة تتجهم، وبالعبارة تقسو.

والحق أننا لا نريد الخوض في هذا المجال -أي مجال لغة نيتشه- لأننا لسنا مؤهلين لذلك البتة، بالرغم من أننا سجلنا هذا الانطباع. فكل ما نهدف إليه -واستلهاما لهذا الانطباع- هو محاولة لجمع أشلاء ومكونات التراجيديا عند نيتشه، من خلال كتابه "ميلاد التراجيديا". وهذه الغاية لن تتأتى لنا إلا بهدي من ازدواجية رؤية نيتشه نفسه للتراجيديا عبر ما أسماه: الروح العلمية والروح الديونيزوسية.

وفي إطار هذه الثنائية الكبرى وما تتضمنه من ثنائيات فرعية سنعمل على تشييد وتكوين "مفهوم التراجيديا عند نيتشه".

1 - التراجيديا والروح العلمية:

أ - التراجيديا بين الاحتضار والموت:

يقول نيتشه معرفا الروح العلمية ما يلي:" أفهم أن الروح العلمية اعتقاد ظهر أيام سقراط، وأنه معرفة الطبيعة وحقائقها. كما أن المعرفة تملك في ذاتها فضيلة الخلاص الكوني"(1).

من خلال هذا الكلام يمكن أن نستخلص بعض مقومات الروح العلمية، والمتمثلة في: المعرفة، الحقيقة، الفضيلة، ثم سقراط ذاته. ويعتبر هذا الأخير في نظر نيتشه الممثل الفعلي لهذه الروح العلمية وذلك نظرا لمطابقتها لمبادئ سقراط الثلاثة التالية:

"الفضيلة معرفة، لا نذنب إلا عن جهل، الإنسان الفاضل سعيد(2)".

والمعروف في تاريخ الفلسفة أن سقراط كرس حياته من أجل المعرفة والحقيقة بغض النظر عن التقاليد، والأعراف والدين… فكان همه، وقضيته الأولى، هو البحث عن الحقيقة. ولتحقيق هذا الغرض/الحقيقة، راهن سقراط على العقل، والجدل، وعلة الوعي والمنطق… ليصبح أكبر عدو للإنسان هو ما يجهله. وعليه، فالمعرفة عند سقراط فضيلة، إذا تجنب الإنسان الوقوع في الخطأ/الذنب/الخطيئة، فإنه يضمن السعادة.

معنى هذا أن الأطروحة السقراطية، تؤمن بأن جميع أسرار الكون يمكن معرفتها والتأكد من صحتها على أساس، أن كل شيء فيه قائم على مبدأ السببية، "والحقائق الأبدية(3)".

ويمكن إرجاع الأطروحة السقراطية إلى الحكيم أنكساكوراس Anaxagore في قولته الشهيرة"في البداية كل شيء كان فوضويا، إلى أن جاء العقل، وخلق النظام(4)" وعلى غرار هذه القولة يصرح سقراط قائلا: "أي عمل ليس جميلا، إلا إذا خضع للعقل(5)".

وهكذا فالنظرة الجمالية عند سقراط تقوم بدورها على العقل / النظام، وهنا يلتقي سقراط بأبولون Apollon إله العقل والنظام.

إن سقراط يشبه إلى حد كبير "فاوست Faust"، في مسرحية غوته Goethe الذي كان همه الوحيد، هو أن يعرف/المعرفة، حتى بواسطة السحر، وعبر الشيطان مفستوفيليس نفسه. وبطبيعة الحال، فعلى قدر المعرفة، يأتي التفاؤل وتتحقق الفضيلة والسعادة.

من هذا المنطلق يعتبر نيتشه سقراط، الزعيم والمؤسس الفعلي للروح العلمية، وبالتالي فلا غرابة أن يتشكك سقراط في قيمة الفن والتراجيديا(6) بالدرجة الأولى، لأنها لا تقوم على مقياس العقل والمنطق والجدل والشروط السببية…

وقد تسربت هذه الرؤية إلى تلميذه أفلاطون Platon خصوصا في كتابه "الجمهورية"، إذ كان ينظر إلى الفن والشعر خصوصا نظرة ساخرة لا لشيء إلا لكونه "غير نافع ويتوقف عند محاكاة الصورة الظاهرة(7)". بهذا طرد الشعراء من جمهوريته بل والأكثر دلالة من ذلك، هو أنه أحرق كل ما أنتجه من الشعر الدرامي، إرضاء لأستاذه سقراط.

والحق أن التأثير السقراطي لم يقف عند حد أفلاطون بل تعداه إلى أحد شعراء التراجيديا الكبار ونعني به الشاعر أوريبيد Euripide. هذا الأخير الذي تبنى طروحات سقراط وتشبع بها، فكل شيء عند أوريبيد "ينبغي أن يكون واعيا ليكون جميلا(8)". وهذا دليل قاطع على أن أوريبيد يتبنى الجمالية السقراطية ويتبع في هذا "آثار الشيطان السقراطي(9)" -على حد تعبير نيتشه- لأن الجمالية عنده تقوم على الوعي، والعقل، والنظام… وعلى الواقع اليومي أيضا الذي أصبح ظاهرا في الكتابة التراجيديا عند أوريبيد. بذلك يكون هذا الأخير، وفي شعره التراجيدي - قد "أصعد المتفرج إلى الخشبة، ليجعله قاضيا على الدراما(10)"، فأصبح المتفرج بذلك، يغادر مدرجاته نحو الخشبة. ومن ثمة فإذا كان سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فإن أوريبيد أنزل التراجيديا من السماء إلى الأرض، وغدت التراجيديا تهتم بالإنسان العادي عند أوريبيد يكتب عن همومه اليومية، ومشاكله الاجتماعية والسياسية…

ولا غرو، والحال هذا، إذا علمنا أن سقراط يعبر ويكتب بواسطة أوريبيد، خاصة وقد بات معروفا في أثينا أن سقراط بالفعل كان يساعد أوريبيد على الكتابة بل لقد عرفا هما الاثنين "بمرتشي الجمهور(11)"، خصوصا أوريبيد الذي نزل بمسرحياته إلى الجمهور وخلصها من تلك المهابة والجلال الذي كانت تتمتع بهما مع اسخيلوس وسوفوكليس وغيرهما.

وفي هذا الصدد يقول ينتشه: "في الحقيقة ليس هناك أي فنان يوناني يتعامل مع جمهوره لمدة، بوقاحة كبيرة وادعاء إلا أوريبيد(12)".

فإذا تم الطلاق بين العمل المسرحي ونزوله إلى الجمهور عند كل من اسخيلوس وسوفوكليس فإن أوريبيد قد جعل من متفرجيه حكاما وأساتذة يصدرون أحكاما على أعمالهم الفنية. لهذا السبب لم يجد بدا من البحث عما يرضيهم ويحقق رغباتهم على الخشبة. فمع أوريبيد، يقول نيتشه قد أصبح "المتفرج: الإنسان في واقع حياته اليومية متطفلا على الخشبة(13)".

هذه هي الروح العلمية، وتلك تجلياتها مع أهم أعلامها كما تناولهم نيتشه. لكن نود أن تتساءل في الصفحات التالية، حول موقف نيتشه من هذه الروح العلمية؟ وكيف تشكل -أي الروح العلمية- سهما قاتلا في جسد التراجيديا كما يراها نيتشه نفسه؟ تلك هي الأسئلة التي سوف تكون موضوع الخطوات الموالية.

ب - الروح العلمية بين المطرقة والسندان:

إذا كانت الروح العلمية تقوم على تمجيد العقل، والجدل، والمنطق… وعلى التفاؤل بنتائج العلم والوصول إلى الحقيقة وبالتالي بلوغ الفضيلة والسعادة، فإنها قد حكمت بالإعدام التام على التراجيديا اليونانية خاصة والحياة عموما.

إن الإنسان السقراطي / الروح العلمية، متفائل بالعلم والعقل والجدل والوعي… لأنه مقتنع تماما بإمكانية "النفوذ إلى أصل الكائن ليس فقط لمعرفته، ولكن لتصحيحه أيضا(14).

وفي هذا الكلام ازدراء للفن والشعر، بل ونفي للغريزة Instinct المرتبطة بالجسد عند نيتشه. والغريزة / الجسد قوة فاعلة متعالية عن العقل والحكمة وعن الجدل والمنطق… إنها مصدر النشوة والفرح واللذة، إنها القوة الجارفة نحو المستقبل المجهول. وبعبارة أوجز، إنها الحياة في نظر نيتشه. إلا أن نظرة سقراط لها نظرة مقلوبة على اعتبار أنه "يقابل الفكرة بالحياة ويحاكم الحياة بالفكرة(15)" أو كما يقول نيتشه نفسه "إن سقراط ينتسب حقا إلى عالم خاطئ مقلوب في الطبائع الإنتاجية، إنه اللاوعي الذي يتصرف بشكل إبداعي وتقديري في حين أن الوعي نقدي وردعي عنده -أي سقراط- فتصبح الغريزة نقدا والوعي إبداعا(16)".

من هذا المنظور، يكون سقراط والروح العلمية ككل نفيا للحياة لأنها - في نظر نيتشه خدعة ونذالة، لأنها تحجب فعل الغريزة، ورحابة الحياة. وهذه الأخيرة أكبر من العلم ومن المنطق، ومن الجدل ومن الكلام النظري وأكبر أيضا من الوعي والعقل… وما الروح العلمية عامة "إلا تخوف من التشاؤم وطريقة للهروب(17)"، لأن العلم مهما وصل والمعرفة مهما بلغت إلا ولها حدود. من هنا، يفسح نيتشه المجال للغريزة والفن وللمسرح والموسيقى وللحياة عموما. وليس غريبا، والأمر هذا ينعت نيتشه، الحكيم سقراط "بالشيطان الجديد" "لأنه لا يفهم التراجيديا ويحتقرها، ولا يحتفل بالموسيقى ويتهرب من ديونيزوس وهذيانه. إن الفكرة التي يؤسسها ضد التراجيديا تقع في نقيض ديونيزس(18)".

تلك هي الأطروحة السقراطية، ومظاهر الروح العلمية، كما أبرزها نيتشه في كتابه "ميلاد التراجيديا" لكن ما هي العلاقة بين الروح العلمية والتراجيديا وبين الروح العلمية والروح الديونيزوسية ثم أساسا بين الروح الديونيزوسية والتراجيديا؟

ذلك ما سنراه في الفقرات الموالية:

2 - التراجيديا، والروح الديونيزوسية:

أ - التراجيديا النشأة والاحتفال:

إن الحديث عن الروح الديونيزوسية، هو حديث عن ديونيزوس نفسه. وديونيزوس هذا -كما جاء في الأساطير اليونانية- شخصية أسطورية، ولد من رماد أمه سيميلي وبعدما طلبت من زوجها زوس Zeus، إله الآلهة أن يظهر لها في كمال مجده، وهو طلب مفخوخ دبرته الآلهة هيرا. ولما حاول زوس ذلك، تحول إلى صاعقة، أحرقت سيميلى، ومن رمادها ولد ديونيزوس. بهذه الطريقة المأسوية ولد ديونيزوس، وتكفلت أرواح الغابات وربات الفنون بتربيته وتنشئته، إلى جانب كائن اسمه سيلين Siléne.

وترعرع ديونيزوس، وراح هو وسيلين يعلمان الناس زراعة الكروم، وصناعة الخمور وممارسة النشوة، وتصيد اللذة، بل ويفرضان في كل مكان مرا به أن يحتفل بديونيزوس اعترافا بجميله، وقد كان هذا الاحتفال -في بداية الأمر- خليطا من الرقص، والغناء/الديثرامبوس، كان يؤديه كورص Choeur على شكل دائري في الوقت الذي يربط فيه حيوان "ثور أوتيس" يرمز لديونيزوس، ويكون ذلك في مكان مقدس يسمى تيميلي Thymélé وهي "حفرة مخصصة لجمع دم الضحايا، على كل حال، مكان مقدس(19)" وبإشارة من رئيس الكورص يبدأ الاحتفال فيبدأ الغناء والرقص ثم النواح والعويل… حتى يبلغ المحتفلون إلى حالة تسمى "ألمانيا(20)" La Mania، أي جنون يقدفه الإله في صدر الإنسان وآنذاك ينقضون على الحيوان، فيمزقونه إلى أن يصلوا إلى مرحلة الكشف والتنبؤ. إلا أن هذا الشكل الاحتفالي قد عرف تطورا كبيرا خاصة على مستوى الشكل الفني.

ونستخلص من هذا الجرد المركز أن ديونيزوس هو "أصل التراجيديا والنقطة المحورية للفن اليوناني. قصة إبداع الحضارة الهلينية(21)". فديونيزوس هو محور الاحتفال، وبطله. وكل طقوس الاحتفال تتمحور حوله.

لقد عرف الإنسان اليوناني بجديته وبنشاطه في عمله اليومي فكان "لا يعرف الراحة الأسبوعية -وهي مفهوم يهودي- ولا يرتاح إلا بمناسبة الأعياد الدينية(22)". وبالضبط في أشهر سبتمبر ويناير ومارس. وفي هذه المناسبات يستعد الإنسان اليوناني للاحتفال فيقوم رئيس الكورص بتحضير جميع لوازم هذا الاحتفال: القاعة المشروبات… والغرض الرئيسي من هذا الاحتفال هو انتشال "الإنسان اليوناني من الحياة اليومية الأكثر ألفة والأكثر تسلية ومن حياة السوق والشارع، والمحكمة، للدخول في احتفال الفعل المسرحي، كل شيء فيه يستعد للراحة، ويستدعي التأمل(23)".

لكن ما هي العناصر المحققة لهذا الغرض؟ وكيف تتكامل هذه العناصر وتتفاعل في تحقيق وبلوغ تلك الحياة المعنوية التي ينشدها نيتشه؟

ب - التراجيديا: الكورص والبطل التراجيدي:

يعتبر الكورص الوسيط بين الخشبة والجمهور، لكن دون أن تكون له -أي الكورص- علاقة عضوية بالخشبة(24). فالكورص هو الذي يتكلم بلسان الآلهة عبر تشكيل دائرة حول المكان المقدس Thymélé ومع تطور التراجيديا أصبح الكورص، لازمة موحدة Stasina ويردد النصف الآخر لأزمة أخرى لتشكل حلقة خروج الكورص Exodos. بهذا تتضح أهمية الكورص والدور الرئيسي الذي يؤديه داخل التراجيديا، وعلى هذا الأساس: فإنه -أي الكورص- بمثابة "الممثل الرئيسي(25)" في نظر بارط Barthes، على اعتبار أنه "جدار عريض مروض ضد هجومات الواقع(26)". بمعنى أنه جدار قائم على إبعاد وإقصاء معطيات العالم الخارجي الواقعي وما تحتويه من هموم، ومشاكل اجتماعية، وذلك قصد ولوج آفاق السماء الرحبة، ومعانقة المجهول، والتعالي على كل ما هو يومي مبتذل(27).

من هنا تأتي أهمية الكورص في التراجيديا اليونانية علما بأنها خرجت -أي التراجيديا من صلب الكورص "ولا شيء سوى الكورص(28)".

وإذا كان سوفوكلس أول من قلص من دور الكورص وبطولته في التراجيديا اليونانية واقتصر على البطل التراجيدي فإن أوربيد -بالدرجة الأولى- قد قتل الكورص وأعدم وظيفته الاحتفالية واقتصر فقط على البطل مقياسا لكل شيء: البطل الإنسان الذي انتقاه من الجمهور وأنطقه بما يريد ويرغب. بهذا "غاب طابع الاحتفال ولم يعد للكورص من وظيفته إلا تأمل الحدث الدرامي، وعلى هامشه(29)". ولم يعد البطل التراجيدي ذلك البطل الأسطوري الذي يصارع ويقاوم ويتعذب ويتحدى، بل والذي يذهب نحو حتفه / الموت بطواعية، ورضى. وعليه فقد كان البطل التراجيدي الحقيقي بطلا لا يساوم ولا يقبل الحلول الوسطى فهو يصارع في كبرياء وفخوة(30).

والملاحظ أن صيغة هذا الصراع صيغة عمودية وليست أفقية، كما عند أوريبيد، صراع مع الآلهة والقدر. صراع من أجل مقاومة القدر والموت نفسه، صراع من أجل تحقيق ما يسميه مارسيا إلياد M.Eliade "ما فوق الإنسان(31)" Sur-humain أو ما يعبر عنه نيتشه بالإنسان المتفوق Sur-homme "الإنسان الذي لا يعوقه عائق ولا يحد إرادته حد. إنسان القمم الشامخة والمرتفعات العالية(32)". وقصد تحقيق هذا التعالي والتفوق… لا بد من عنصرين حاسمين داخل التراجيديا وهما الموسيقى والأسطورة.

ج - التراجيديا: الموسيقى والأسطورة:

تعتبر الموسيقى في نظر نيتشه عاملا حاسما في الاحتفال التراجيدي. وليس غريبا أن يهدي كتابه "ميلاد التراجيديا" إلى الموسيقار العالمي الكبير فاغنر Wagner. والسبب في ذلك هو أن الموسيقى في نظر نيتشه "تعبر عن روح الأشياء ولبها الخاص(33)" وذلك هو رأي شوبنهاور أيضا Schopenhauer. ويميز نيتشه بين نوعين من الموسيقى: موسيقى مقلدة M.Imitative وموسيقى حقيقية. فالأولى تفقر الظاهرة لأنها تعتمد على التذكر فقط. أما الثانية فتغني الظاهرة، وتتحول إلى رمز كوني على اعتبار أنها موسيقى مبتكرة "توخز كالإبرة في أعصاب متعبة(34)". وذلك لأنها تنفذ إلى الماهيات والأشياء في ذاتها. فبالموسيقى، وفي الموسيقى يعود ديونيزوس، بعد اختفاء طويل، ليعبر عن الإرادة الكونية. وذلك أمر لا يتأتى إلا بالموسيقى لكونها "تعطي للأسطورة معنى ميتافيزيقا أكثر نفاذا، وأكثر إقناعا. إذ لا يمكن للكلمة ولا للمشهد أن يحققا هدفها إلا بمساعدتها(35)".

فبفضل الموسيقى والأسطورة أيضا تتخلص التراجيديا من الواقع والعالم الخارجي ككل. بالموسيقى يتحرر الجسد، وبالأسطورة نعانق الزمن الأول، علما أن الأسطورة عادة تحكي كما يقول إلياد Eliade "قصة مقدسة أي حدثا أصليا، يبدأ مع الزمن. فالشخصيات الأسطورية ليست أناسا بل آلهة أو أبطالا متحضرين، فالأسطورة إذن هي قصة فعل الآلهة والكائنات الإلهية في بداية الزمن(36)". ويتابع مارسيل إلياد في تحديد مفهوم الأسطورة ووظيفتها الوجودية قائلا: "أن تقول أسطورة معناه إعلان عما كان يحدث في الزمن الأصلي(37)". وبهذا المفهوم تكون الأسطورة بمثابة حفر في جيانولوجيا Généalogie تاريخ الإنسان وعمق ماضيه السحيق. فعبر الأسطورة نعانق هذا التاريخ الأصلي، ونحتضن الزمن الأول، الزمن المقدس، أو الزمن الأبدي وباستعادتنا له "ننسى كل شيء، ننسى أقسى الألم(38)". وأكبر الألم عند الإنسان وأقساه هو الموت، والتراجيديا في عمقها وجوهرها مقاومة للموت نفسه، والحلول في الزمن الأبدي: مع ذلك، يظل الموت حاضرا أو قائما وإذا كان لا بد منه، فعلى الأقل لنختر كيف نموت… أي أن نموت بكرامة وشرف. وطبعا هذا لا يتأتى في نظر نيتشه -إلا بالمواجهة البطولية. بعبارة أدق، إذا كان لا بد أن نموت فيجب أن نموت أحرارا منتصرين، أي أن نختار موتنا ونتوجه إليه بعزم وإصرار بتحد وبطولة. فالموت البطولي، أجل من الموت جبنا. على هذا الأساس تقوم التراجيديا عند نيتشه. فالأبطال التراجيديون يختارون موتهم ببطولة وشجاعة وإقدام. فهم يعرفون أنهم سيموتون إلا أنهم يختارون موتهم، ويذهبون إليه. فهذا بروميتوس يختار موته ويتوجه إليه عند اسخيلوس. وذلك أوديب، عند سوفوكليس، يختار مواجهة موته ببطولة وإقدام… فهم يعلمون أنهم سيندحرون في مواجهة الآلهة إلا أنهم مصرون على التحدي والمواجهة. بهذا إذن تتجسد الأسطورة "في البطل التراجيدي الذي يرتمي كالأعمى. ورأسه مقنع في تعاسته والفعل ميؤوس منه، ولكنه سام(39)".

لقد كان الإنسان اليوناني يحس بالضجر والرعب، وبالخوف في هذا الوجود، إلا أنه كان يرفض أن يتعامل معه -أي الوجود- كخطيئة أو ذنب، كما الحال مع المسيحية، ومع الروح العلمية اللذين عملا على احتضار التراجيديا وموتها. وبالنسبة للروح العلمية فقد سبق أن تحدثنا عنها، وبينا علاقتها بالتراجيديا، أما ما يتعلق بالمسيحية، فقد اتخذت موقفا سلبيا بدورها من التراجيديا، بل ومن الوجود عموما. فالمسيحية تنظر إلى الوجود/الحياة كخطيئة وذنب. ولهذا السبب، وجد الألم، ولزم التكفير والقربان -في نظر المسيحية-. فإذا كان ديونيزوس يشترك مع المسيحية في الألم، والاستشهاد والمعاناة، فإنهما يتعارضان تماما من حيث نظرتهما إلى الحياة والوجود، والنشوة والفرح… فالمسيحية، تضع الحياة في قفص الاتهام لأنها "غير عادلة، بل وظالمة في الأساس(40)"، من هنا يأتي التعارض التام بين ديونيزوس والمسيح وبالتالي بين العمل التراجيدي والمسيحية خاصة. والتراجيدي هو الفرح المضاعف، الفرح المتعدد. هذا الفرح ليس نتيجة تصعيد أو تعويض، أو خضوع أو تبريك -كما هو الأمر في المسيحية- "التراجيدي يدل على الشكل الجمالي للفرح، وليس وصفة طبية، ولا حلا أخلاقيا للألم والخوف والشفقة(41)"، بتعبير دولوز.

هكذا يتضح لنا أن أعداء التراجيديا، وقاتليها متعددون ومختلفون، والحق أن التناقض ليس عميقا بين أبولون وديونيزوس، ولكنه جذري وعميق بين سقراط وديونيزوس وبين المسيح وديونيزوس.

وخلاصة القول فالروح العلمية بتجلياتها المتعددة (العقل والوعي والمنطق…) والمسيحية بمواقفها من الوجود والحياة كلها في نظر نيتشه علامات أساسية على موت التراجيديا، والفعل التراجيدي بل وعلامات على (الانحطاط والتعب والمرض… الذي أصاب الحضارة اليونانية والحضارة الحديثة بعصورها المختلفة: النهضة، والأنوار، والوضعية في القرن19…(42)).

ولبعث الحياة والتراجيديا من رماد العصر، فلا بد من تقويض أسباب موتها -كما حددناها سابقا- والإيمان مع نيتشه، "بالحياة الديونيزوسية لأن زمن الإنسان السقراطي قد ولى(43)، وحل زمن الإنسان التراجيدي، زمن الإنسان المتفوق، الإنسان الذي نجد مواصفته ظاهرة عند زرادشت Zarathoustra فمن يكون زرادشت؟ وما هي مواصفاته وعلاقاتها بدينيزوس والتراجيديا كما يتصورها نيتشه؟

ذلك موضوع لكلام آخر!

 

الهوامش

1 - F.Nietzsche: La naissance de la tragédie. Traduction et représentation de: Cornelius Heim. Bibliothèque médiation. Edition: Denoel. Paris 1964, p. 112.

وقد اعتمدنا في هذه الدراسة أيضا على:

Coll: folio. Edt: Gallimard 1977.

وخاصة في الفصل: "نصوص مختلفة حول التراجيديا" الملحق بالكتاب.

2 - F.Nietzsche. Denoel, p. 93.

3 - Ibid, p. 111.

4 - Ibid, p. 85.

5 - Ibid, p. 83.

6 - Ibid, p. 91.

وفي هذا يقول نيتشه: "بالنسبة لسقراط، الفن التراجيدي لا يمثل الحقيقة، فضلا على أنه يتوجه إلى ناس قليلي العقل". انظر ص 91.

7 - Ibid, p. 91-92.

8 - Ibid, p. 85.

9 - F.Nietzsche. Gallimard, p. 234.

يقول نيتشه في هذا الصدد: "إن أثر سقراط قد استع على الخلف، كظل يتسع في الشمس الغائبة". انظر ص 96 من طبعة Denoel

10 - F.Nietzsche. Denoel,pp. 74-75-76.

11 - F.Nietzsche. Gallimard, p. 281.

12 - F.Nietzsche. Denoel, p. 76.

13 - F.Nietzsche. Gallimard, p. 276.

14 - F.Nietzsche. Denoel, p. 98.

15 - Gilles Deleuze: "Nietzsche et la philosophie" Edt. P.U.F. 1962, p. 15.

16 - F.Nietzsche.Gallimard, p. 282.

17 - F.Nietzsche, Denoel, p. 164.

18 - C.Heim. in Présentation Denoel, p. 8.

19 - R.Barthes: “L’Obvie et L'Obtus". Essais critiques III. Coll: Telquel. Edt. Seuil. 1982, pp. 65-69.

20 - Ibid., p. 70.

21 - F.Nietzsche. Denoel, pp. 68-164.

22 - Ibid., p. 75.

23 - F.Nietzsche. Gallimard, p. 265.

24 - F.Nietzsche, Denoel, p. 55.

ومعنى هذا، أن هناك علاقة ما. أما شليغل Schlegel، فنعرف الكورص، بأنه "الممثل المثالي". انظر نيتشه لطبعة Gallimard. ص 265.

25 - R.Barthes, Ibid, p. 66.

26 - F.Nietzsche. Denoel, pp. 49-54.

27 - وكلها مظاهر الجمالية السقراطية في تراجيديا أوربيد. انظر نيتشه، ص 285-286. Gallimard

28 - F.Nietzsche. Denoel, pp. 48-95 et Gallimard, p. 269 et Gilles Deleuze, p. 13-14.

29 - أنطوان معلوف: "المدخل إلى المأساة التراجيديا، أو الفلسفة المأساوية". دار المؤسسة الجامعية، ط.1. 1982، ص 102.

30 - Gilles. Deleuze, Ibid, p. 20.

31 - Mircea Eliade: "Le Sacré et le profone" Coll: Idées. Edt. Gallimard. 1965, p. 148.

32 - حسان بورقية: "نيتشه وقلق الكتابة". مجلة العرب والفكر العالمي، عدد 11، صنف 1990، ص 135.

33 - F.Nietzsche, Denoel, p. 106.

34 - Ibid, pp. 103-107-114.

35 - Ibid, p. 137.

36 - M.Eliade. Ibid, p. 82.

37 - Ibid, même page.

38 - F.Nietzsche. Denoel, p. 195.

39 - F.Nietzsche. Gallimard, p. 285.

40 - Gilles Deleuze, Ibid, p. 16.

يقول دولوز في هذا الصدد "الفن يقر الحياة، والحياة تتضح في الفن". انظر ص 38.

41 - Ibid, pp. 19-20.

42 - F.Nietzsche. Denoel, p. 169.

43 - Ibid, p. 134.