ص1      الفهرس    المحور 

 

فـي التقنية

 

جان بوفري

ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

 

لا يجعل هايدغر من التقنية ما يدعوه "تقريرا حكائيا" لا ننسى من خلاله، أن نؤكد مع ماركس، وأضيف أيضا مع برغسون، "أن التقدم، الذي كان بطيئا في البداية، قد سار بخطى كبيرة عندما ظهر العلم على المسرح". إنه يحاول أن يضبط التقنية ويباغثها في لغز ماهيتها التي ما تزال تغلفها الأسرار. حينئذ تغدو العلوم ذاتها، التي ينظر إلى التقنية على أنها تطبيق لها، جديرة بأن توضع موضع سؤال. إن التصور السائد لتاريخ العلوم هو التصور الذي يرى أنها في تقدم لا يفتأ يعرف بعض التراجعات. وبالفعل هل في استطاعتنا أن ننكر أنه ابتداء من فيتاغوراس كان هناك تقدم علمي كان أفلاطون نفسه، في وقته، شاهدا عليه، ثم تلاه تقهقر أرسطي خلصتنا منه النهضة الأوروبية، وأخيرا ديكارت كي يوضع العلم من جديد في الطريق الملكي للتقدم؟ إلا أن هايدغر يعتبر، مع ذلك، أن هذا التمثل لتاريخ العلوم هو مجرد "حكاية غير محبوكة". فليس العلم الحديث في تقدم بالنسبة للمعرفة القديمة بقدر ما هو يضع محلها منظورا يختلف اختلافا جذريا بفضل "المشروع الرياضي للطبيعة" الذي نادى به ديكارت على غرار غاليليو، والذي يرى أن "الطبيعة تعمل رياضيا". حينئذ فلا يوجد أي شيء في العالم لا يمكنه أن يتحدد عن طريق حل معادلة خاصة. لكن، ألا يمكننا أن نؤكد أن ديكارت قد اقتحم مجال الصدق، وأن من تقدموه لم يعملوا إلا على التمهيد لتلك الحقيقة أو الابتعاد عنها؟ على هذا النحو يفكر "الإبستمولوجيون" المحدثون دون أن يتبينوا أن المشروع الرياضي للطبيعة ليس أكثر صدقا من طبيعة أرسطو، وإنما هو تمهيد يستجيب لنبوءة نيتشه الذي يقول: "يقترب زمان ستخاض فيه المعركة من أجل السيطرة على الأرض". في علاقة مع هاته المعركة غدا العلم بدوره تمثلا رياضيا للظواهر الطبيعية بفضل الحساب الذي يزداد يسرا يوما عن يوم، وبناء على إمكانية السيطرة على الطبيعة" كما يقول نيتشه. بل إن زارادوشترا يقول: "ليست هناك معرفة بريئة"، قاصدا بذلك أنه ليست هناك معرفة تخلو من خلفية سيطرة وهيمنة. لكن حتى بالنسبة للإغريق أنفسهم ليست هناك معرفة بريئة طاهرة. فإذا كانت كل نظرية بالنسبة لأرسطو سرعان ما تقترن بتطبيق وبراكسيس، فإن التطبيق ذاته يرتبط بالنظرية والعكس. ذلك هو معنى العلاقة بالوجود عند الإغريق. إلا أن التطبيق والبراكسيس بالمعنى الأرسطي بعيدا عن أن يدعي الهيمنة على الطبيعة، فإنه يسعى إلى أن يستجيب لها بالمعنى الذي تستجيب فيه القنطرة للمجال الذي يفصل ضفتي النهر. وليس مطلقا بالمعنى الذي تقام فيه سيطره الإنسان كذات فاعلة على موضوعية القوى الطبيعية. إن الاستجابة والتناغم شيء، والسيطرة والهيمنة شيء آخر. ولن تغدو الاستجابة سيطرة إلا عندما سينغلق الإنسان على ذاته بمعنى الكوجيطو الديكارتي، أي في فجر العصور الحديثة. وحتى ها هنا لا ينبغي أن نستعجل الخطى. فإذا كانت فلسفة ديكارت بتمجيدها للإنسان في شكل الأنا قد ظهرت وقت ظهورها، فليس ذلك كنقطة انطلاق مطلقة لعالم التقنية بمقدار ما هي لحظة متميزة لتطور ماهية التقنية التي كانت ما تزال تحفها الأسرار.

يقول هايدغر في الدروب "حتى كون الإنسان غدا ذاتا وكون العالم غدا موضوعا ما هو إلا نتيجة لماهية التقنية وسيادة مملكتها وليس العكس". كان كل شيء قد بدأ قبل ديكارت ومنذ الفكر الإغريقي عندما أطلق هذا الفكر لفظ تِخْني على أكثر أشكال المعرفة أهمية. إن التخني، بالمعنى اليوناني، لا علاقة له بطبيعة الحال مع التقنية الحديثة. العكس هو الصحيح، فالتقنية الحديثة هي التي لها علاقة مع ما كان الإغريق يدعونه تخني. إن "مسألة التقنية" كما يضعها هايدغر هي إذن وضع للفلسفة ذاتها في كل تاريخها موضع سؤال. ليس بالمعنى الماركسي بطبيعة الحال، من حيث إن ماركس اكتفى بـ"تفسير" النظر انطلاقا من الممارسة. ولكن بمعنى أكثر جذرية، من حيث إن النظر، شأنه شأن البراكسيس هما في أصلهما ومنذ البداية "تقنيان" بالمعنى اليوناني للاسم وللمسمى. أما فيما يتعلق بهذا المعنى اليوناني للتخني، كبعد اساسي لعلاقة الإنسان بالعالم، فإننا لن نعثر عليه بالطبع في القواميس، وإنما بالإصغاء إلى ما قاله الإغريق دون أن يقولوه، الشيء الذي يفترض أن ما قالوه ينبغي أن يطرق بشكل مغاير لما اعتادته ترجماتنا ودراساتنا.

باستطاعتنا أن نوجز القول، أو أن نجمل ما قلناه على النحو التالي: بدل أن نؤول التقنية على غرار ماركس ومن نحا منحاه، انطلاقا من العلاقة بين النظر والبراكسيس، كتطبيق للأول، أو أن نرى في هاته الشيء المتقدم على الثاني، فإن ما يسعى هايدغر إلى تسليط الأضواء عليه هو هاته العلاقة ذاتها وذلك بتحديد مكانتها في التقنية من حيث إنها تحفظ ماهيتها التي لم يفكر فيها بعد. ها أنتم تلاحظون أنها الطريقة المتبعة ذاتها في الوجود والزمان التي تذهب إلى أن تكشف في الزمان مجال الوجود أو المجال السابق للوجود، فها هنا أيضا تعيين للأمكنة وتحديد للفضاءات. لكن، مثلما أن الزمان كـ"أفق" للوجود ليس هو تتالي اللحظات، فإن التقنية كمجال لعلاقة النظر بالبراكسيس لا تلائم في ماهيتها المعنى المتداول للتقنية الذي يكتفي بتحديدها على أنها العلم المطبق، أما فيما يتعلق بماهية التقنية، فإن هايدغر يفهمها على ضوء التراث الإغريقي. إن ما ينفرد به الإغريق هو أنهم ينظرون إلى العلاقة التي تبدو بسيطة والتي تربط النظر بالبراكسيس فيضفون عليها شيئا من التعقيد وذلك باقحام طرف ثالث هو التخني. فحيثما نرى نحن حدين فإن الإغريق كانوا يرون ثلاثة حدود على أساس أن الحد الثالث هو الذي يحتل المكانة الأولى.

Eryck de Rubercy, Dominique Le Buhan: Douze Questions posées à Jean-Beaufret à propos de M.Heidegger. Aubier Montaigne, Paris, 1983.