ص1      الفهرس    المحور 

 

حول فشل لقاء الشعر والفلسفة بالتصوف

عن لقاء محمد السرغيني بابن سبعين(*)

 

محمد المصباحي

ذكرني اهتمام الشاعر محمد السرغيني بابن سبعين برغبة القاضي والفيلسوف أبي الوليد ابن رشد في لقاء محي الدين ابن عربي. لقد تطلع شاعر فاس من وراء لقائه بابن سبعين إلى عقد الصلة بين الشعر و التصوف، أو بالأحرى بين الخيال والذوق وبين الجمال والعرفان، في حين أراد فيلسوف قرطبة من وراء لقائه بابن عربي أن يقطع في إمكان اتصال الفلسفة بالتصوف، والنظر بالكشف، والبرهان بالوجدان. فهل نجح الرجلان في لقائهما بالمتصوفين المورسيين؟ هل نجح الشعر والفلسفة بالتصوف، أم كان مآلهما الفشل؟

لقد كان لقاء ابن رشد بابن عربي لقاء حيا وتاريخيا، شهد به ابن عربي نفسه، ونقل لنا وقائعه على نحو رائع في الفتوحات المكية؛ أما لقاء السرغيني بابن سبعين فكان من وراء حجاب الزمن والكتابة والتحصيل. وبالرغم من الاختلاف بين طبيعة اللقائين سواء على مستوى الجنس القولي أو على مستوى الغاية، فإنهما انتهيا معا إلى مآل واحد، هو الفشل. والراجح أن مقاومة كل من الفلسفة والشعر لأي استدراج للذوبان في جنس القول الصوفي كان من أسباب هذا الفشل المزدوج، ولو أنهما لم يخفيا طمعهما في التعرف على مسالك التجربة الصوفية وتذوق بعض من لذاتها العارمة. لكننا يمكن أن نضيف سببا آخر لفشل اللقاء بين أجناس القول الثلاثة -الفلسفة والتصوف والشعر-، وهو أنها تصدر عن تجارب وجودية صميمية لا يمكن رد بعضها إلى بعض، بسبب اختلاف موضوعاتها -الوجود والواحد واللغة- وإن كانت تقتسم الشعور بعدم الاطمئنان إلى العادة وإلى الشائع والمتداول من الحقائق والأعراف والشرائع وأنحاء التعبير.

لقد سعى ابن رشد بلطف ورقة مع شيء من الحيلة إلى لقاء ابن عربي ولو أنه كان "صبيا ما بقل وجهه ولا طر شاربه". وقد كان في جوهره لقاء صوفيا شعريا، بإشاراته ورموزه، بانفعالاته وعواطفه، بمحبته وغيرته، بعنفه ودماثته، بتطلعه للمشاركة في التجربة الخارقة، برفضه للانحباس في أفق واحد مسدود. ولعل هذا الجو المحفوف بالترقب واليقظة، المفعم بالانفعالات المحتدة، هو الذي أفشل اللقاء منذ لحظته الثانية، بعد أن لاحت بارقة أمل في اتصال محتمل بين الحكمة والتصوف. فقد أبى المتصوف إلا أن يربك الفيلسوف بإجابته الملتبسة عن سؤال إمكان لقاء الكشف بالنظر:

قلت له: نعم ولا !

وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها !"

لقد فشل اللقاء "الحي" بين ابن عربي وابن رشد، فهل انقطع الأمل في أي لقاء جوهري بين الحكمة والتصوف؟ لا نعتقد ذلك، فإذا كان المتصوف قد أوقع الفيلسوف في شرك الحيرة والشك من أمر اتصال الفلسفة بالتصوف (وبهذه الجهة يكون المتصوف قد نجح في وضع الفيلسوف على طريق التصوف، لأن الحيرة إحدى مداخل هذه التجربة الروحية الخارقة)، فإن ابن عربي، وحسب اعترافه، صار له تعلق ما بابن رشد وشوق لرؤيته، بل إنه حرص على "مشاهدته" والاجتماع به حتى من وراء حجاب، بالرؤية الخارقة، في الوقت الذي انصرف فيه القاضي للانشغال بنفسه وبطريقه عنه. لم يفض هذا الفشل "التاريخي" إلى توقيف صيرورة اللقاء، وإنما نقله إلى منزلة أخرى. فإذا كانت الحكمة هي التي أخذت في أول الأمر زمام المبادرة في الإعراب عن رغبتها في لقاء التصوف، فإنها ما إن عاينت تردد المقال في شأن اتصال التجربتين الصوفية والفلسفية، حتى انصرفت للتفرغ إلى موضوعها والعناية بسبيلها الخاص. فانتقلت الرغبة في اللقاء إلى التصوف، الذي سعى في لقاء الفلسفة طمعا في مدد منها، إن لم يكن على مستوى الرؤيا، فعلى الأقل على مستوى اللغة والمضمون.

* * *

أما الشاعر الفاسي، محمد السرغين، فقد سعى هو الآخر في طلب ابن سبعين. وكان لقاؤه به مرتين، لكن عبر حجاب النص. ولا يخفي أن الإعراب عن الرغبة في لقاء القول الصوفي هو اعتراف غير مباشر بانسداد ما في أفق البحث الشعري، وتطلع إلى فتوحات شعرية جديدة آتية من أهل الخرقة، فقد صارت "الكلمات أنثى عاقر" وباتت "الدلالة شمطاء". إن هروب السرغيني من حيز القول الشعري إلى فضاء القول الصوفي، كان هروبا فطريا، حماية لشاعريته كيلا تسقط في أحابيل "الكرادلة" النقاد. لقد احتال السرغيني على المؤسسة العلمية كيما يحتفظ بانتمائه لعشيرتها دونما تفريط في هويته الشعرية. وبهذه الجهة كان وفيا لطبيعة القول الشعري الذي ليس له بد من التجوال والسفر بعيدا إلى الأعالي الشاهقة بين الحين والآخر حتى لا يستدرج إلى السقوط في مذهبية مقيتة، أو ولاء شعري ركيك. لقد كان لجوء السرغيني للصوفية بمثابة اعتراف صريح منه بعجز اللغة واستحالة الدلالة وترهل المؤسسة النقدية. فبات التصوف بهذا الاعتبار ملاذا للدلالة ورمزا للمغامرة والتمرد والعنفوان. إلا إن سلوك شاعر فاس هذا تطبعه المفارقة: ففي أوج "تمركسه"، أي في معمة بحثه عن البديل الجذري للإنسان بما هو الإنسان، يلجأ إلى فكر مناهض في مظهره للإنسان المشار إليه والموجود هنالك في المجتمع والتاريخ. وهذا ما يجعلنا نقول بأن لجوؤه إلى ابن سبعين كان هروبا لا شعوريا من فضاء الجمهور والقطيع والفكر الواحد الشامل، إلى فكر ذاتي غير منضبط بالتزام أو بمساطير أو قوانين داخلية، بالرغم من قيامه على المشيخة والولاء.

بيد أن السرغيني لم يشأ أن يقرأ ابن سبعين باعتباره شاعرا أو عاشقا، بل استكره نفسه أن يقرأ كمحقق باحث. وهو ما أسدل حجابا آخر بينه وبين المتصوف المتمرد. فلم ينظر إليه من حيث هو صاحب تجربة خارقة، بل باعتباره مؤرخا ناقدا لجماع إبداع الفكر العربي-الإسلامي، أي بوصفه صاحب قول أو تجربة قولية وحسب. إنه لم يشأ أن يقرأ ابن سبعين قراءة مكابدة وتأويل، بل قراءة مدارسة وتدقيق. أو إنه لم ينظر إلى نصه عبر مقولة الجوهر، بل عبر مقولة "له". لقد فضل السرغيني أن يبقى على مسافة ما من نار الشمعة، وكأنه كان على خشية من نفسه من مغامرة غامرة في تخوم الحرم المكي. ولعل أحد أسباب فشل لقاء السرغيني/ ابن سبعين يعود إلى رفضه أن يكون مريدا لأي كان، فشعره كان دائما في بحث مستمر، بحث يرفض المشيخة والقطبية، ولو كانت على حساب وضوح المسلك والطريق. لقد فضل الشاعر أن يحافظ على هامشه المفضل من الحرية إزاء الجميع، فضل أن يبقى في فاسه لممارسة الشغب على الجميع، ومع ذلك لم تمض به الأمور إلى أن يأمل في أن يكون مجذوبا أو متوحدا في أعالي الجبال أو ملاماتيا في قارعة الطريق.

كانت قراءة السرغيني لابن سبعين إذن قراءة وصفية نقدية، وليست قراءة شعرية تجريبية. لقد نظر إلى المتصوف كدارس، لا كعاشق لهذا الفن من القول والتجربة. لذلك احتفظ بمسافة بينه وبين ابن سبعين، ولم يرد أبدا في أية لحظة من اللحظات أن يتماس به، أو يستلهمه في مغامرة وجودية أو وحدوية جديدة. وقد حرمته هذه الجهة من النظر من أن يتغلغل في التجربة الصوفية السبعينية. لقد فضل الشاعر أن ينظر إلى المرقعة لا إلى لابسها، فكان له حظ منها، لا من لحظة المحق والطمس.

وبالفعل، لم يسلم معجمه وأسلوب كتابته وموضوعاته الشعرية من التأثر بالقول الصوفي، ولا سيما في بعض إنتاجاته الأخيرة التي انتحل فيها أسلوب المقامات والمقولات. فقد صار يتناول موضوعاته كما يتناول الفيلسوف الموجود والصوفي الواحد، فينظر إليها عبر تجلياتها المقولية، فتصير مدينة فاس مثلا فواكه سبعا أو دروبا عشرة، على غرار مقولات الموجود، أو مقامات الواحد. فما كان يهمه من التجربة الصوفية هو لغتها وجموحها، لا هدفها ومبتغاها؛ ما كان يهمه هو الرحلة نفسها لا لحظة الوصول، اجتياز الوديان السبع بأهوالها ومخاطرها لا نعمة اللقاء! ففاس لم تعد موجودة في عالم السرغيني إلا من خلال ذكريات المشماش والبرقوق والتوت… فأين فاس من كل هذا؟ لقد أصبحت فاس هي السرغيني، هي ذكرياته، كالحال بالنسبة لطيور فريد الدين العطار، التي بعد عناء الرحلة وعذاب الحيرة والشط، لم تر في المرآة، بعد وصولها إليها، إلا نفسها! هكذا يتحول موضوع الشعر إلى منطلق فإيحاءات الشاعر، يتحول الموضوع الشعري إلى رمز لكل الأشياء من حيث ما هي تحيل على الذات. ولهذا فمن أراد أن يبحث عن المعنى في شعر السرغيني فلن يظفر به. من أراد أن يصل مع السرغيني فلن يصل. لقد صارت فاس دروبا وفواكه وذكريات لا يمكن فك طلاسمها إلا بعلم شعري هرمسي ربما كان خاصا بالشعراء أو بعلماء الحروف والأعداد، علم لا يعرفه إلا ذوو القربى أو الراسخون في العلم.

أسماء ومقامات ومقولات، هذا ما اغترفه السرغيني من التصوف. لم ير في التصوف إلا ألوان المرقعة، ألوانا يقرأ فيها حفريات مقامات مريد لبسها يوما ما، أو لبسها كل الواصلين في كل الأزمان. فالألوان هي التي كانت تعنيه وليست مضامين الألوان وغاياتها. لقد كان السرغيني أقرب إلى المتسكع ما بعد الحداثي منه إلى المتصوف المتوحد الذي يجد ضالته وهويته في طلب الرحلة والسفر! المتسكع في دروب فاس كالراحل في مقولات الموجود، أو في مقامات الواحد. فاس هي مرقعة المتصوفين التي يلبسها واحد بعد آخر. لقد استبدل شاعر فاس المطلق بالملموس، والسفر بالتسكع. لقد أعجب بها وهام بحلمها، ولم يكن همه أن يعرف حقيقتها أو يصل إلى مركز جاذبيتها.

لقد كانت مقاربة السرغيني للموجود على عكس اقتراب الصوفي منه. فالأول ينطلق من المطلق إلى الجزء، فما كان يعنيه هو الأشياء في جزئيتها، لا المطلق في إحاطته، بل إنه لا يرى في الجزئي إلا الزاوية التي تثير انفعاله. فقد كان السرغيني ديمقراطي الأصل. ولكن له أيضا نسبا من جهة أخرى، فقد نظرة مقولاتيا-مقاميا، لأن ما كان يشغل باله هو أحوال الألوان والأذواق والطعوم والروائح والأسماء والحروف، لا الانتقال منها إلى جوهرها أو مبدئها المتعالي. كان يحرص على أن يظل في عالم الأعراض، عالم التفكك والتلاشي، كان يسعد بالأشياء الصغيرة، لكن دون أن يغرف في عين البحر. لقد انتقم السرغيني لابن رشد؛ فقد كان الصوفي هو صاحب زمام المبادرة بقطع حبل التواصل بينه وبين الفيلسوف بشيء من المكر، فأبى الشاعر إلا أن يكون هو الغالق لباب الاتصال بين الشعر والتصوف والملابسة الداخلية بينهما.

* * *

بعد هذا الفشل المزدوج للفلسفة والشعر في سعيهما للقاء التصوف، نتساءل هل بوسع النظر أن يستغني عن الكشف، والخيال عن الذوق، هل يمكن لصناعة الكلمة والانفعال أن تستغني عن صناعة الذوق والجذبة، هل بوسع صناعة العقل وارتياضه أن يدير ظهره تماما لرياضة الروح؟ ليس في نيتنا قطعا أن ننكر ما للفلسفة والشعر من ذوق وكشف خاص بهما يغنيهما عن التطلع إلى فضاء الجذب والتجليات، ومع ذلك لا نعتقد أن في إمكانهما أن يقطعا مع التصوف على نحو مطلق، سواء على سبيل الاستئناس بأفق آخر، وعلى سبيل التعرف على التجربة طقوس الخارقة التي لا ينفك الشاعر يبحث عنها. أما التصوف فلا يستطيع بدوره أن يستغني عنهما معا: عن الفلسفة والشعر! ويشهد على ذلك ابن عربي نفسه، الذي لم يكن حريصا فقط على لقاء ابن رشد وعلى معاشرته ولو في غيبته، بل وأيضا على ممارسة الشعر والفلسفة معا في خضم جذبه وتجليه.

ـــــــــــــ

(*) ورقة ألقيت في الندوة التكريمية التي أقيمت للشاعر محمد السرغيني في كلية الآداب بفاس.