ص1      الفهرس    المحور 

العقل وأوثانه : نقد فلسفي للعقل

مانويل دوديكيز

تقديم وترجمة : عبد الله زارو

مقدمات :

لهذه المقالة، بنظري، أهمية خاصة لأنها تقوم، وبشكل تركيبي توليفي موفق، ب تحيين المشكلات القديمة-الجديدة التي ترتبط بممارسة العقل لمهامه. ويمكن أن نختزل الشبكة الإشكالية غير المفصح عنها، لهذه المقالة في هذه التساؤلات المعادة المسلم بعضها للبعض الآخر :

ما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لاكتشاف الحقيقة؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف "حقيقة" الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟

بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته "السندبادية لتعقل " الآخر" أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب، يدعو دوديكيز إلى البحث عن السبب (أو الأسباب)، فيكشفها في ما أسماه بـ أوثان العقل، المهددة، باستمرار، لصفائه وتعاليه، والتي لازمته دوما ملازمة الظل لصاحبه. إن شروط هذا الاكتشاف ومقتضياته الضرورية لاستمرار الفكر الإنساني في فاعليته هي الهاجس الذي يسكن هذه المقالة من أولها إلى آخرها. إنها محاولة في تاريخية العقل ونقائضه، هدفها المعلن " إعادة الاعتبار لتعالي العقل التأملي الفلسفي ونفخ الحياة في لغز الوجود"

ولهذا الغرض، يعود بنا إلى بعض الأوليات الضرورية فيذكرنا بالمعاني الأولى لبعض الاصطلاحات كالعقل والفلسفة والتفكير. المفروض أن تكون الفلسفة على الطرف الآخر للاهوت، لأن هدفها هو معرفة الحقيقة من خلال فهم للواقع وتملكه. أداتـها في هذا البحث عن الحقيقة هو هذا الذي نسميه عقلا. هـذا الذي يسترشد ببوصلة الحدس . لكن ماذا نعني بالعقل؟ إنه "قدرة الفكر البشري على ملاحظة ومعرفة الأحداث بشرية كانت أو طبيعية في ماضيها أو حاضرها والقدرة، بعد ذلك، على التنبؤ بـها". إذا كان يلاحظ ليعرف ويعرف لكي يكون قادرا على التنبؤ، فمعنى هذا أنه ينطلق، منذ البدء، من الجهل.

ولأن العقل يبحث عن الحقيقة انطلاقا من إقرار مسبق بالجهل كقاعدة عامة فإنه لا يتبنى ولا يزكي الأجوبة المعطاة، الجاهزة وهو ما يعني أن طريق العقل، على الأقل ضمن صيرورته الغربية، كانت طريقا لا دينية ذلك لأن اللاهوت يقفل ملف الحقيقة هذا بتنبيه لـ "حقائق منـزلة". إلا أننا سوف نرى أن ما كان عناصر مميزة للعقل سوف تنتهي له، بدوره، إلى نوع من اللاهوت.

فاعتماده، في العصر الإغريقي ، على مقولات المبادئ والعلل والماهية، سوف يجعله يعتقد، واهما، أنه بصدد إرساء أسس علم للفهم الخالص سوف يعمد، بعد ذلك بمصطلح النظرية. إن المقولات التي اعتمدها العقل، في بداياته، هي ذات طبيعة جوانية، بمعنى أنـها تتموقع، على الطرف الآخر، لما هو اختباري، باعتبارها "معرفة أسمى" الـهية الطابع واعتبار ما هو "اختباري" معرفة أقل سموا أي بشرية أساسا. نحن، إذن، في كل الفلسفة الإغريقية، بصدد لاهوت متخف.

إذا كان العقل قد سيّج نفسه داخل مقولات جوانية حولته إخراجا مختلفا فقط للاهوت متأصل في الممارسة العقلية للإنسان، فهلاّ وجدناه مطلق السّراح في موضع آخر، ولم لا يكون هذا الموضع هو التفكير؟ لكن ماذا نعني به؟

إنه "قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية" وسلوكات" الموضوعات الخارجية" السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري). الوصول إلى هذه المرحلة من تملي العقل لنفسه مشروط بشرطين :

- أحدهما ديكارتي : القدرة على إصدار " أحكام جازمة" بعد تطهر العقل من كل معايير التحقق من الحقيقي السابقة، في وجودها، على ممارسة الذات للكوجيطو.

- ثانيهما كانطي : تطهر العقل من كل الأحكام اللانقدية حتى يكون أهلا لولوج "مصدر العقل" نفسه.

وإذا كان هذا هكذا، فليس بوسع الفكر الديني، مثلا، الذي هو "أسير مقولاته اللاهوتية" أن ينتج عقلا يتوفر فيه هذان الشرطان، بل ولن يكون بوسع الفلسفة التي لم تتخلص بعد من " إيمانها العقلاني" أن تقوم بذات الشيء. غالبا وعندما يتساءل العقل عن مصدره، فإنه يتمثل جوابين :

- جواب فطري : العقل من الفطرة أو هو الفطرة ذاتـها؛

- جواب إمبريقي : العقل مستخلص من دروس التجربة (صيغة : العقل صفحة بيضاء الأثيرة).

وبمقتضى هذين الجوابين ظلت المعرفة العقلانية تتأرجح بين الواقع والأسطورة النظرية وهو ما ترتب عنه استحالة الحسم في شأن هذا التأرجح ومن ثمة، حصل الإنتقال إلى مواجهة شكل آخر من الإشكال، إنه التفكير في إضفاء معنى ما على هذه الازدواجية في المصدر المفترض للعقل. وهنا، بالضبط، تدخلت الفلسفة ولازالت مدعوة للتدخل بحسبانها علما إعداديا تمد صاحبها بأداة اسمها النقد بحسبانها "كاتارسيس" أي تطهيرا لا يكف للفهم. هي إذن وستظل تخصصا معرفيا اسمه التفكير. التفكير الذي لا يستثني العقل. هي إذن تفكير بالعقل وفي العقل.

يبدو أن "محاورة جورجياس" دشنت ( بفصلها بين المعتقد والعلم وتمييزها بين نمطي الإقناع المتمخض عنهما)؛ هذه المهمة التي يتعين على الفكر القيام بها، بشكل مسترسل ، تجاه نفسه تحت طائلة تحويل العقلاني إلى اعتقادي ومن ثم إلى "أدلوجة - فكرة" كما حصل في أنساق فلسفية لاحقة.

يتعين على الفلسفة اليوم ودائما ، للحفاظ على استقلالية الفكر بداخلها، أن تتوسع في هذا الفصل السقراطي وتخصبه على ضوء ما يستجد في العلاقة التفاعلية (الذي قد تنـزلق إلى تثاقفية) بين العقل العلمي والعقل بإطلاق (الفكر)، وسوف نرى كيف أن عملا منظما كهذا سيدفع بنا، بادئ بدء، إلى "إعادة نظر" ضرورية في بعض مقولاتنا الذهنية، وفي القلب منها مقولة الفهم، الذي كان الإرث الفلسفي الإغريقي يرى بأنها تنتصب علما قائما بذاته بمجرد حيازتنا لتلك المقولات الجوانية التي هي العلة، المبدأ والماهية.

إلا أن التشويه الكبير اللاحق في الزمان والذي طال هذه المقولة كان قد حصل في أوج فتوحات العقل في مجالات العلوم المختلفة. إذ حصلت عملية اختزال مخلة للفهم البشري في ضبط القوانين العلمية الخرساء وصوغها بمعادلات، وهو ما أفضى إلى إفقار له بحسبانه يخيل ، على وجه الحصر، على ما هو قابل للفهم بفضل العلم.

غالى الفكر البشري عندما رفع التواترات التي عاينها وفي نظام اشتغال الحوادث، إلى درجة القوانين الصارمة والتي لا تعرف أي مرونة أو سيولة طريقا إليها. وكان أن ترتب عن ذلك ، ترتب لزوم، اختزال أكثر إخلالا للمعني في عقل ومنطق متحدرين،أصلا، من فهم مهيض، مفقر ومدعي في ذات الوقت. إن مسلمة قابلية كل شيء للفهم، وبالأدوات التي يوفرها العلم المزهو المنتصر على وجه التحديد والحصر ،معناه الانزلاق إلى ما هو أشد ادعائية ألا وهو قابلية كل شيء للتفسير الذي لن يقبل إلا بالوجهة الواحدة وبالأحادية المركزية.

مرة أخرى، وجب على الفلسفة أن تتدخل ، كما يجب عليها اليوم وبعده، لفضح هذه التبسيطات المتلاحقة ولن يكون ذلك إلا بأن تجعل على رأس جدول اهتماماتها الفكرية إعادة تفكير لا تفتأ تتجدد وتتخصب في معنى المعنى الذي قد يكون من شأن الحقيقة أن تكتسيه.

ذلك أن فهما حقيقيا بلا شيء، خلافا للمزعم العقلاني، ربيب علموية توسعية وهيمنية، لا يتحقق إلا إذا كان على بينة من شيئين :

1.               الحافز المحرك للشيء قيد الدرس؛

2.               الغاية التي يرمي إليها من خلال تلك الحركة المحفزة (علم الغايات).

إن فهما كهذا وحده هو القمين بإعطاء تفسيرات تربط الحافز بالعناية مستخلصة منهما القوة الاقناعية المفسرة (انظر مثال هايزنبرغ عن الطائرة المحلقة) وبدونه، يكون الانتقال متسرعا، ادعائيا وساذجا، من تحصيل فهم كسيح ومنقوص إلى ادعاء تفسير لا وجود له إلا لادعاء تفسير، وهو ما يقره أغلب علماء الفيزياء الذرية الذين "فهموا"، جيدا، حجم الدرس الذي يجب استخلاصه من التحول النوعي لموضوع بحثهم من المادة إلى الطاقة.

إن فعل الخلخلة الشاملة هذه التي يستدعيها عمل يهدف إلى كشف لأوثان العقل وهدمها كأية أوثان تتحول إلى أداة استلاب للإنسان، يدفع بنا، حتما، وعلى نفس الخط، إلى إعادة صياغة لبعض المصطلحات التي أمست ذات سلطة فيتيشية في الحقل الدلالي المعرفي، وفي مقدمتها مصطلح القانون الذي لن "يفهم" بهذا السياق إلا كتواتر وانتظام ورتابة وتكرار: إن الطابع التقنيني الثاوي في القانون العلمي يحيل، بحد ذاته، على عوالم دلالية ميتا-علمية تجعل منه في الظاهر ما لا يلبيه ويشبعه في الخفاء ، ونقصد الترتيب المعقول، القواعد الثابتة، الطمأنة السيكولوجية (نوع من بديل للمكتوب الخرافي والأسطوري ) مضبوطة لا تزيغ عن مدار حركتها ولن تزيع ولن تختلف.. لا يجب، بالأخص، أن يغرب عن البال أن لمقولة القانون العلمي طابعا مغالطا مانحا لإيمان فكري هو نيو-أسطوري في جوهره وهو ما أكده كل من (ليفي برول) و (فاليري). هذا الطابع المغالطي لإيمان متقنع جديد هو الذي استحث، في الأصل ، ظهور الإرهاصات الأولى لأنثروبولوجيا نقدية كانطية مع معادلـها النيتشوي سيكولوجيا معرفية، وهما، كلاهما ، ضربان متجانسان لغرض واحد هو ممارسة، في بداياتـها، لعلم نفس تحليلي لسلطة الإقناع الفكري.

إن الطابع المغالط لهذا الإيمان المتقنع الجديد عبر عنه (دوديكيز) نفسه في بعبارة بليغة وتصويرية عندما نسب إليه فعلة تحويل الطبيعة إلى نظرية معلنا بذلك موت الأولى بولادة الثانية لتنتفض الطبيعة في هيئة نظرية (على طريق تناسخ أرواح هندية). هذه النظرية التي ستكون بمثابة "رغيف فكري" يقتات منها العقل ويعيش عالة عليه..

يتحول الفكر بالمقابل، وتحت مفعول هذا الطابع المغالط للعقل العلمي ومصطلحات القانوناوية، إلى مذبح-معبد تجري بداخله عملية تحويل دائبة للطبيعة إلى فكرة-نظرية ويتحول رجل التجربة إلى قس جديد يمارس تقربات إلى العقل- الإله بقرابين السببية، الحتمية، العلل والقوانين وفي حركة دائرية، يجازيه الكوسموس جزاءا وفاقا بكلمات يراد لهـا أن تحمل معنى نسميها : "نظريات"!

جسدت الهيغيلية الثمرة الخالصة لـهذا الأوج الذي بلغه هذا التحالف المقدس بين العلم ولوغوس مؤمثل. فقد استخلصت كل المترتبات، إلى حد الاستنفاذ الناتجة "منطقيا" عن تحويل النظرية: الابن "الشرعي" لـهذا الزواج الكاثوليكي، إلى إنجيل الفكرة حيث علينا أن نتهجى الأفكار..

إن الطابع الغنوصي في هذه الزيجة الكاثوليكية ظاهر جلي. فالنظرية إن هي - لمن يبحث عن غنوصات جديدة - إلا غنوصا للعصور الحديثة التي يفترض فيها تجلية أفعال وحركات اللوغوس. وها هنا، بالضبط، عندما تكثف الفكر البشري في لوغوس النظرية- الغنوص الجديد، بدأنا نرى في النظرية وثنا خرج من عباءة العلم - اللاوثني بامتياز، وثن يقوم بذات الوظائف السيكولوجية التي كان الإيمان السحري - الديني بفطرة متخفية في الكائن قبل انولاده أو مبادئ عقلية أولى (الشعور بالبداهة الديكارتي مثلا…) يتولى القيام بـها.

انساق العقل إذن وراء هذه اللعبة التي كلفته خسران حريته وانقلب إلى غنوصية جديدة ، لكن مع هذا الانسياق ، وبسببه، غدت مهمة الفكر، الذي هو أداة التفكير الحرة، هي الشروع في " إزالة الأقنعة" التي تتحين الفرص للهجرة من قارة المعتقد إلى قارة العقل.

انتهى العقل المبهور، الخادم الطيع هذا إلى خلق مثل جديدة ليست سوى أفكار صعدت إلى درجة المثال، أمثلت ونحتت منها طوطمات جديدة للإنسان : إنها الطوطمات الذهنية. واعتمد في كل هذا على ثقته العمياء بمقولات النظرية وأدواتـها التي ليست، في واقع الأمر، إلا توتولوجيات متخفية.

لكن يجب أن نسجل بأن قصة تأرجح العقل هذه بين النظرية والتجربة، بين الأسطورة والواقع ترقى إلى العهد الإغريقي حتى لا نقول إلى عهود أغبر نظرا لتواضع معارفنا عن "العقول" الأخرى، معطى واشتغالا وحتى امتداد في الزمن الحاضر.

وفي كل مرة حاول فيها، ومنذ ذلك العهد، استبدال أساطير لا عقلانية مفسرة للأشياء بعقلانية محض، إلا وأتى، متببضعا، بتفاسير لا تقل أسطرة، وإن كانت تتاخم أكثر المعقول الذهني أو العقلي. فقد كان يعتقد، مثلا، في خضم إرسائه لنظريات كونية بوجود خبير ممتاز " على رأس هرمها المهندس الأول : الإله، وكان يعتقد بوجود علية لها قوة تفسيرية قديرة ، لكن يعجز، في كل مرة، عن توصيف هذه العلة كما هي في واقعها الفينومينولوجي. فما كان يرى فيه (هارفي) علية حيوية كان يرى فيه (ديكارت) علية مكانيكية. والحال أن كليهما ليس بأعجز من الآخر عن تعريف العلة أو ما يسميانه كذلك.

كانت هناك إذن ثغرات بالغة داخل العلم يتسرب منها المعتقد متنكرا فيأخذ، بعدها، شكل نظرية ذات القول الفصل. إن مفهوم "العلل" في العلم الكلاسيكي لا يبتعد كثيرا عن مفهوم المعقولات في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولا عن العلية الرباعية الأبعاد في النسق الأرسطي وغير ذلك كثير..

لا مناص، بعد كل هذا، من جهد فلسفي يتغيا تخليص المشهد الفكري من هذه الوثنيات المتوارثة منها أو المنبعثة من رمادها الفينيقي، أو على الأقل الوعي بكونها كذلك. جهد يستلهم العمل التدشيني الهائل لكل من (أبيلار) و (أوكام) : الأول بتحريره الفكر من الأساطير المتسربة إليه من أوثان اللغة، والثاني بانتصاره الساحق على السكولائية وتعبيده السبيل لحركة الإصلاح والنهضة.

إن المساعي النظرية التدشينية لأبيلار وأوكام تندرج، في المبدأ، ضمن هذه الحاجة الضاغطة للفكر إلى استكشاف متسارع الخطى لعالم الذاتية باعتباره اكتشافا لـ"جرعات" المعتقد التي تختلط في العقل، بشكل خلاسي، بالنتاج الفكري الحر، المتيقط والمحاذر كما تندرج ضمنها مساع نظرية خلاقة أخرى لكل من (كانط، مونتاني، نيتشه).

هي حساسية إبستمولوجية قابلة للتجديد انطلقت منذ (أبيلار) وعبرت عن نفسها بزهو باذخ مع (نيتشه) وتحققت ، بدرجات متفاوتة، مع (مونتاني) و (كانط)، حمل الفكر الحر المُحاذر عبرها مشعلا تحلق حوله كل الغيورين على استقلالية التفكير تجاه كل صداءات العادة وإغواءات الترسانة المفاهيمية العلموية المتبخترة؛ فلم يعد " وهو بحديقة الكلمة مسترخيا مخدرا واهما بأنه بحديقة طبيعة، السيدُ فيها هو فهم خلقه الله خلقا".

لكن ما عساها تكون الانعكاسات الأساسية لتحقق هذا المشروع على مستويات عدة مشكلة، في مجملها، لمشهدنا الفكري؟

على مستوى الوضع الإعتباري للعلم، نجد أنه كان دائما مرتهنا بثابت أساس متمثل في إعطاء الأسبقية لـ "حقوق التجربة" على "حقوق النظرية". وهو " منطقي" في ذلك لكونه يدين ل "العقل التجريبي" في غالب كشوفاته وفتوحاته الباهرة، دينا قاده إلى تلك النقطة القصية التي حملته على أن يجعل من "النزعة الإختبارية" وانعكاسها "الأدلوجي":الوضعانية، إنجيلا فكريا له. ومما يثير هنا أن العلوم، على امتداد تطورها وكشوفاتـها النوعية، لم ترضخ إلا لماما لقواعد المنطق البشري منذ الصياغة الأرسطية المعروفة لها (بالأخص مبدأ الهوية وعدم التناقض)، ولم تخرج إلى الوجود الصياغة الفيزيائية لقانون العطالة إلا بعد ارتداد عن مفهوم الحركة بمعناها الأرسطي والذي كان، بحد ذاته، متمفصلا مع بداهة الفكر والمنطق البشريين. فكما لو أنه قيض للعلم ألا يتطور ويغزو " أراضي بكرا" إلا بعد أن يكون قد " تطهر" من كل ما يتراءى متطابقا مع بداهات الفكر البشري متجاوزا لها نحو نقائضها !

ليس منتظرا من العلم، باعتبار ارتهانه لوضعه الإعتباري الذي قوامه خلخلة المنطق التقليدي للفهم البشري وتسويده للتجربة والإعلاء من شأنـها إلى نزعة بقفاها الأدلوجي الوضعاني، أن يساهم، وهو على هذا الوضع، في ما نتوخاه من تحرير راهن للعقل من سطوة أوثانه المتربصة به بغية تنميطه وجعله تحت طلب ميثولوجيا جديدة متزيية، بلبوس الحجةالاقناعية المفحمة : التجربة الحاسمة. إلا أن تلك هي مهمة العقل الحر: عقل التفكير الفلسفي الذي لا يتخصب ولا يغتني وتتجدد بشرايينه الدماء إلا بمقدار انفتاحه على ذلك "الجهل السقراطي" و" اللغز الأبدي" الذي يلف الشرط الإنساني والذي ما فات التنبيه إليه كبار العقول التي لا تستسلم، بسهولة، أمام إغواءات الطوطمات الذهنية. فكلما كان الفكر مهددا بأنساق متكلسة لنزعات مدرسية على اختلافها (علموية، سكولائية، لاهوتية..) إلا ويبحث لنفسه عن منافذ ومتنفسات، نوع من المجالات الحيوية" فيجدها، أول ما يجدها ، في الآداب والفنون .

وكم هو دال أن الغليان الفكري والتلقائية الخلاقة التي كانت مصدرا لنتاج فكري ثر بالجامعة الفرنسية صاحبهما وجوب توفر أساتذة بجامعة السوربون الشهيرة على لقب "أستاذ في الفنون" قبل توفرهم على لقب " أستاذ في اللاهوت"، وهو ما دام واستمر حتى بدايات العصر الوسيط التي تلاها " انقلاب دوغمائي" للنزعة العقلانية الضيقة الأفق بإحكام فصيلة "السوربونارديين" الخناق على الجامعة.

بالمثل، فإمكان مشروع نقد الأوثان المتربصة بالعقل وانطلاقته الفكرية أن يضعنا، وجها لوجه، أمام نمط من "سيكولوجيا تجريبية" تكشف الوظائف اللاشعورية للأوثان إياها بالنسبة لصاحبها ومتعهدها. ففيها يجد صورته مؤمثلة عابدا لها متعبدا بـها ويحيطها بقداسات، فيجد بـها ما افتقده من "إيمان ديني في هيئة" إيمان عقلاني، وهو ما لم يفت (جاك لاك) عندما تحدث في نظريته حول "مرحلة المرآة" عن "أنا ذهني" أو "مثالي" يجده إنسان العقل العلموي في منتوجاته ومقولاته المعرفية الأوثانية.

لم تسلم السياسة من الانعاكاسات الطحلبية لأنا مثيل. اتخذت شكل التنظير للدولة الكليانية : بنت الفكرة المطلقة واصطبغت بتلوينات عدة منذ (أفلاطون) مرورا (بهيغل) وصولا إلى (لينين) و(روبسبيير) تلك الدولة - الأدلوجة، المحققة المزعومة لـ" العقل في التاريخ" والمجسدة المزهوة لـ "إرادة اللاهوت".

إن نقدا للأوثان الجديدة للعقل لا يعري، فقط، تَخَفِّي "حاجات سيكولوجية، غير مفصح عنها" تشبعها وتلبيها عند صانعيها ومتعهديها بل هو مرشح ليكون النقد الفكري الجذري الأكثر جدية لنسيخها السياسي المنتصب في هيئة -الدولة - الفكرة كما نظر لها كثيرون من واضعي أنساق فلسفية تنحو منحى الشمولية والانغلاق على نفسها وتختزل الخصوبة والتعقد في جفاف الفكرة المبسطة الأحادية الجانب وفي البساطة المقترة الساذجة لتفسيرات مفقرة تنتهي إلى الدوران على محورها والاقتيات من لحمها"

ما سلف ، يدفع إلى الحديث عن الضرورة القصوى لأنثربولوجيا نقدية تصلنا بتراث فلسفي كانطي، نيتشوي كان له السبق في صوغ بعض من ملامحها. ففي سياق هذه "السياسة الوقائية" ضد أوثان العقل المتربصة بطلاقة الفكر، لا مناص من الأنثربولوجيا إياها، أنثربولوجيا تكون مهمتها هي ضمان "دوران معارفنا النظرية والعلمية

حول قواعد بداهات منطق الفكر البشري تماما، كذلك الدوران الكوسمولوجي للشمس حول الأرض كفرضية كانطية معكوسة لدوران الأرض حول الشمس.

الدوران إياه إن هو إلا تعبير مجازي عن تأكيد ضرورة استمرار التفاعل والتجاذب الخلاق بين القانون العلمي وطابعه التقنيني والضرورات الحياتية المرتبطة بمعيشاتنا (جمع معيش). تفاعل، وتجاذب هو بمثابة ممارسة دؤوبة لرياضة النـزول، من حين لآخر، نحو "هاوية أو مهاوي ذاتيات العقل" من خلال فعل تعال متجدد لبحث فلسفي يعبر عن نفسه من خلال إناسة نقدية. سوف يكون الشغل الشاغل للإناسة إياها هو محاصرة العقل الوثوقي المسئول الأول عن إنجاب أشكال شتى من الأوثان الذهنية ذات الانزلاقات الأدلوجية - السياسية، وتلك مهمتها السالبة. أما مهمتها الإيجابية فهي رفد علوم الإنسان وتلقيحها بما راكمته من خبرة من "شغلها الشاغل" ذاك.

بوسع مشروع النقد إياه كذلك أن ينفخ الحياة مجددا، خلافا لما قد يظن، في أشكال مختلفة من "عودات المقدس". فالبروتستانتية، مثلا، كحركة إصلاحية مقوضة، على طريقتها، لأوثان لاهوتية طاغية، مدينة في ظهورها لعمل نقدي مثيل قام به الاسميون من خلال ثورتهم اللغوية. وفي عودات المقدس التي ليس لنا إلا أننحتفي بها من هذا المنظور ، عودة لأشكال مستديمة من اللغز المحيط بالوضع الإنساني وإعادة اعتبار لتعالي "العقل التأملي" :صمام الأمان من كل "انزلاقات إغوائية".

وبموازاة مع ذلك الوضع الاعتباري السالف الذي له ثابته أو ثوابته التي تتحدد بها هويته المفترضة على المقاس، لابد، في شكل من الموازنة، من وضع اعتباري جديد للفلسفة : حاضنة الفكر الحر.

هذا الوضع الاعتباري الذي يتعين عليه أن يسند للفلسفة مهمة بالغة الخطورة ألا وهي نقد لاشعور العقل. النقد هنا بمعناه الإغريقي الأصيل أي كاتارسيس : عملية تطهير مستمرة للروح من أدرانه وللفكر من ركاماته. وأول ما يشرطه هذا النقد وتلك المساءلة للاشعور العقل إعادة صياغة مستمرة لإشكالية الحقيقة في الفلسفة بتسليط الأضواء، أضواء المعرفة - على شاكلة ديدن - على مقادير المعتقد المتسللة إلى لغتنا الفلسفية. سوف يكون السؤال المركزي لإشكالية الحقيقة والذي يمكن أن تتفرع عنه، باستمرار ، صيغ تساؤلية أخرى.

عم نبحث في بحثنا عن الحقيقة: أعن الواقع الفعلي للأشياء أم عن قابليتها للفهم؟

ضمن منظور مثيل، لا يمكن للفلسفة إلا أن تستعيد وتعيد إلى الإنسان فضائلها الأولى التي ليست قابلة للتجاوز وبالذات في هذه المرحلة من تطور العقل البشري الموسوم بتربصات تطاله من كل جانب كما رأينا. وسوف تجعل من أهدافها تلك التي كان "البادئون الكبار" (الفلاسفة الرواد)، بعبارة (هوسرل)، قد وضعوها، دائما، نصب أعينهم:

نقد الجهل المكابر: الجهل الذي يجهل جهله ويدعي معرفة،

التمرس على ممارسة الاستئناس: أي الدخول الدائم إلى بداية كل بداية،

جعل التواضع الفكري والشك المعرفي قيمة معرفية لا يعلى عليها.

والسعي الدؤوب نحو هذه الغايات هو السبيل الأمثل لتعميق معارفنا بالأشياء، بذواتنا، وبالأفكار.

------------

نص المقالة المترجمة

I - عقل وفلسفة :

كانت الفلسفة الكلاسيكية تطرح، تقليديا، ثلاثة أسئلة أساسية. في المتافيزيقا أو "الفلسفة الأولى" كانت تتساءل السؤال الآتي: ما هو الواقع الأصلي : المادة، الحياة أو الروح؟ في الإتيقا ( مبحث الأخلاق)، كانت تتساءل عن ماهية القيم. إلا أن هذين السؤالين كانا يتوقفان، كلية، على السؤال الثالث الذي ينصب على التساؤل عن مصداقية المعرفة. فهل بمقدور الفكر الإنساني معرفة الحقيقة بمعنى امتلاك الواقع وفهمه؟

عكس اللاهوت الذي كان يعتقد في حقائق منزلة، فإن الفلسفة، بمعناها الصرف أو على الأقل تلك التي ظهرت إلى الوجود مع الإغريق وطبعها الغرب بدمغة النقد، توكل للفكر البشري مهمة البحث عن الحقيقة. إذا نحن أقررنا بـهذه المسلمة نكون قد سلمنا معها بأن أداة الفلسفة ، في بحثها هذا،هو العقل الذي يأخذ الحدس بيده.(1)

نقصد بالعقل، بشكل خاص، قدرة الفكر على ملاحظة ومعرفة الأحداث البشرية أو الطبيعة كما هي وقعت، بالفعل ، في الماضي أو كما هي تقع، فعلا، في الحاضر وقوعا يسمح لنا ببلورة الثوابت المتحكمة فيها والناظمة لها، ويجعلها، من ثمة، قابلة للتنبؤ. يلاحظ العقل، على سبيل المثال، كيف ظهر الإنسان على وجه الأرض عبر سيرورة تطورية بطيئة أو مفاجآت مباغتة. ينطلق العقل، إذن وبالضرورة، من الجهل لكونه يفترض أن الأجوبة المعطاة، سلفا، هي أجوبة خاطئة. ولأن هذه الأخيرة هي أساس كل الأساطير التي وجدت منذ غابر الأزمان، فإن العقل، يبدأ أول ما يبدأ، بالتشكك في الوقائع التي ترويها هذه الأساطير. يترتب عن هذا الذي قلناه أن العقل نهج، ومنذ قرون وبشكل لا محيد عنه، طريقا لادينية في الغرب. كان يتم تصينفه، أيضا، على أنه بروميثوسي أوفوستي(2)، كما فعل ذلك (شبينغلر).

تسلح العقل، بمعناه الغربي في بادئ الأمر، بمقولات نظرية كالعلة والمبدأ التي كان أول من صاغها هم الفيثاغوريون وعمل (أرسطو)، من بعدهم، على اختزالها إلى العدد أربعة(3). إلا أنه كان ينظر إلى هذه الأسباب والمبادئ كمقولات جوانية ومن ثـمة، فهي مفصولة عن المعرفة الاختبارية والحسية. يقول (أرسطو) بـهذا الصدد : "ليس امتلاك المهارات هو الذي يجعل الزعماء ( أو القادة) أكثر معرفة من غيرهم بل وامتلاكهم للنظرية وإحاطتهم علما بالعلل"، ويتابع قائلا : "إن أهل التجربة يعرفون ، فقط، أن شيئا كائن لكنهم لا يعرفون لِمَ هو كائن؟ "(4).

إن التبخيس من شأن الحواس التي "لا تقول لِمَ شيء ما هو كذا وليس كذا، مثلا: لم النار حارة، بل تكتفي بمعاينة كونها حارة" ، أقول إن هذا التبخيس يجعل من المعرفة النظرية التي تحصل من خلال البحث في العلل والمبادئ علما خاصا بالفهم الخالص. فوق ذلك، بما أن المعرفة بعلة شيء ومبدئه يسمح لصاحبها بممارسة التعميم وإنتاج معرفة ذات طابع كوني (معرفة كونية)، فإن المعرفة الفلسفية القائمة على هاتين المقولتين (علة - مبدأ) تتبدى، بفعل قوتـها، كمعرفة شبه إلـهية. كان (أرسطو) يعلن، بـهذا الصدد، بأن الفلسفة هي "أكثر من معرفة بشرية"، ويضيف : "إن الله أو لنقل، على الأقل، الإله هو الذي بمقدوره، بالدرجة الأولى، امتلاكها"، وفي لهجة أكثر تواضعا يردف: " إن ذاك الذي كان السباق إلى العثور على معرفة خالية من الحواس المشتركة لهو قادر على إثارة إعجاب الناس به"(5).

تعني كلمة نظرية، في الأصل الإغريقي: تأمل(6). ولأنها كانت تعتبر علما شبه مقدس، فإن الفلسفة تطلق على كلمتي : علية وكونية علم الغايات. لهـذا العلم الذي "يعرف لأية غاية يجب على كل شيء أن يكون"(7) ومن يكون "الخير الأسمى". بهذا المعنى ، تكون الفلسفة الإغريقية ، بكاملها ، عبارة عن لاهوت.

II - العقل والتفكير :

تتحدد مهمة نقد المعرفة إذن في تقييم إنجازات العقل. إذا استثنينا ثلة من الوضعيين، وبالأخص، (أوغست كونت) الذي كان ينفي قدرة العقل، مهما كان، على مبارحة شرنقته الخاصة، حتى يتمكن من معاينة ذاته من خارج، فإن الفلاسفة - ومنذ (أفلاطون) - يقولون بأن سلوكات العقل قابلة للملاحظة. نسمي تفكيرا وفهما قدرة الفكر الإنساني على المزاوجة ( يقصد الجمع بين ملاحظة الذات للموضوع وملاحظة الذات لنفسها والذات هنا هي العقل) [مترجم]، هذه المزاوجة التي تمكنه من الحكم على عادات وأعراف العقل.

فحتى نتمكن من معرفة القوانين والأمم والمؤسسات والفنون والنباتات وما إلى ذلك، كنا نقر، منذ عصر النهضة ، بأنه لا مناص من معرفتنا، أولا، بنشأتها، طفولتها وشبابها ونضجها ثم أفولها وموتها. ومنذ (داروين) و(نيتشه) لازلنا نقر بذات الإقرار : بإجهادنا أنفسا لمعرفة أصل وتطور وسيرورة العقل ذاته يكون العقل، إذاك في مستوى قياس وزنه والحكم على نفسه. وهذا ما أطلق عليه، بالذات، علم النسابة (جينيالوجيا) : هذا الجنس من المعرفة الذي لا تنفتح مغاليقه إلا بمفتاح اسمه التاريخ.

إلا أن التاريخ، بحد ذاته، جامد لا حراك فيه وهو ما يدفع دفعا إلى تأويله (أي استنطاقه (م) ) لكي تنبعث فيه الحياة ويكتسي معنى. يقول (ديكارت) في هذا المنحى : "لن نكون أبدا فلاسفة إذا نحن قرأنا كل استدلالات أفلاطون وأرسطو وعجزنا، بعدها، عن إصدار حكم جازم في معضلة معينة. سوف نبدو، حينها، كما لو كنا تعلمنا التاريخ لا العلوم"(8).

ويكتب كانط، من جهته ، قائلا : "هناك من لا يعرف من الفلسفة إلا تاريخها ويعتقد بأنه فيلسوف (…) على مثل هؤلاء ، دائما، أن ينتظروا حتى يفرغ أولئك الذين يجتهدون للاغتراف من منهل العقل ذاته، ويأتي ، بعد ذلك، دورهم لإخبار العالمين بما حصل"(9).

لكي نصل إلى ذلك "الحكم الجازم" بالمعنى الديكارتي أو نلج إلى "مصادر العقل" يتعين على التفكير، بمعناه الصرف، أن يتمخض، أولا ، من تلقاء نفسه، عندئد فقط، سوف يكون في مستوى تاريخ الفعل وحاملا لدلالة وطالما يتطهر العقل فسوف يستمر في الاستعانة بمعايير التحقق مما هو حقيقي ( صحيح) المتحدرة من الحكم ( أو الأحكام) اللانقدي. سوف يتأسس إذن على موازين وثوقياته المنفلتة من الإدراك والمغمورة في اللاشعور. يكون بمقدور العقل الذي لم يتطهر بعد من وثوقياته ولا شعوره، مثلا، أن يزن نوع المعرفة التي تقيمها الحجة المدعاة " تجريبية"، حق وزنـها تماما كما أن معرفة لاهوتية لن تحكم على نفسها إلا اعتمادا على مفاهيم من قبيل : الإله، اللطف، الخلاص ومقولات أخرى ضامنة لتماسك داخلي لتلك المعرفة، ولن يحدث أن تضع أبدا موضع سؤال المسلمات الأساسية التي هي قوام معتقداتها. ذات الشيء يصدق على الفلسفة التي لم تستأنس بعد "إيمانها العقلاني" بل قد ترى في عمل كهذا فعلا جنونيا شبيها بلاعب شطرنج ينازع قواعد لعبة الشطرنج!

عندما يحصل للعقل أن يتساءل عن مصدره فإنه يتصور تارة نفسه منزلا من السماء - وهو ما يعني أنه غير قابل للتغيير و "فطري" - وتارة أخرى يتصور ذاته مستخلصا من دروس التجربة وأن الأشياء " تنطق عقلا" بطريقة تلقائية دون أن يتساءل ماذا فعل الإنسان ليجعل من المادة كائنات ناطقة. يتأرجح نقد المعرفة العقلانية إذن بين مستويين رفيعين ل "الحقيقة" : الواقع والأسطورة النظرية. كانت المعرفة العقلانية دائما إذن موزعة - طيلة قرون وقرون - بين سلطتين متعارضتين، وتمزقها أو توزعها هذا أشبه ما يكون بمتقاضيين قاضَى أحدُهما الآخر أمام أنظار محكمة لاوجود فيها لقاض يحكم! تكمن المهمة الأساسية للتفكير في عمله من أجل امتلاك نظرة عن المعنى الذي يكتسيه المصدر المزدوج الذي ينسبه العقل لنفسه في غياب إمكانية التعالي تجاه العمليات الخاصة التي يقوم بها. هو ذا بالذات ما يجعل من الفلسفة علما إعداديا، فهو يعد صاحبه للنقد بحسبانه تطهيرا مستمرا للفهم. نسمي كاتارسيسية(10)، (وهو ما يعني ما من شأنه أن يطهر (م) ) - الممارسة النقدية الفلسفية الخالصة. والفلسفة، من حيث هي نقد، بالدرجة الأولى - هي علم المنهج أو تخصص معرفي اسمه التفكير . يجب ألا ننسى ، بـهذا الخصوص، أن مصطلح "توليدي"(11)، كان يطلق منذ أفلاطون على فعل توليد لفهم خاص بممارسة فعل التفلسف.

إن نظرة متعالية إلى التأرجح الذي يمارسه العقل بين حدي النظرية والتجربة سوف تسعى جاهدة إلى الغطس في هاوية الذاتية التي تعتمد الفكرة كوسيلة تعبير، وهو ما سيفضي بها إلى معرفة نقدية بالأوثان المثالية والمثل(12).

إن معرفة أعمق بذاتية الأفكار ونمط الذهنية الإسقاطية التي تؤسس العقلاني كمعتقد مرتبط بمنطق الفكرة (الأدلوجة)، تشترط فصلا أكثر عمقا من ذلك الذي دشّنه الإغريق، ومن بعدهم كانط بين العلم من جهة أولى والمعتقد من جهة ثانية والتي تقدم لنا عنه محاورة جورجياس صورة واضحة :

- سقراط : هل يوجد شيء تسميه معرفة؟

- جورجياس : نعم، يا سقراط،

- سقراط : وشيء تسميه معتقدا؟

- جورجياس : نعم، لا محالة؛

- سقراط : معرفة واعتقاد، هل هما، بنظرك، شيء واحد أم هما متمايزان؟

- جورجياس : أتصورهما متمايزين، ياسقراط،

- سقراط : أنت على حق، وهاك البرهان : لو سألتك هل يوجد اعتقاد خاطئ وآخر صائب فسوف تجيب بالإيجاب، أليس كذلك؟

- جورجياس : أجل؛

- سقراط : هل يوجد علم خاطئ وعلم صائب؟

- جورجياس : أبدا؛

- سقراط : العلم والاعتقاد ليسا إذن شيئا واحدا؛

- جورجياس : صحيح ما تقوله؛

- سقراط : ومع ذلك فالاقتناع واحد سواء عند أصحاب الاعتقاد أو عند أصحاب العلم؟

- جورجياس : ما تقوله صحيح جدا؟

- سقراط : أقترح عليك إذن التمييز بين نوعين من الاقتناع: اقتناع ناتج عن اعتقاد دون علم واقتناع يتولد عن العلم"(13).

لكن ما عساه يكون ذلك العلم المتطهر من الاعتقاد إذا كانت معقولية المعرفة ذاتها تنتمي إلى نظام الاعتقاد ؟(14)

III - فعل : "فهم"

لمدة طويلة، حققت شجاعة العقل وفضوله في مجال العلوم إنجازات باهرة. لكن من حقنا أن نتساءل : لما اكتشف الإنسان القوانين الدقيقة الخرساء المنظمة لعالم الطبيعة، ألم يحصل أن وقع الفكر البشري ضحية إغراء ذهب به إلى أن يجعل من الدقة البالغة هذه التي حققتها المعرفة تفسيرا يبدو أن ما أصبح قابلا للتنبؤ صار ناطقا . فقد كان إخضاع الإنسان للطبيعة مكلفا جدا إلى الحد الذي جعل الفهم ينصاع ويرى في النجاح الذي حققه دليلا على قابلية كل شيء للفهم. توهم الإنسان بأن التواتر الذي تتحقق به الأشياء الجامدة، ذلك التواتر الذي عبر عنه بصيغ رياضية مناسبة كفيل بأن يحل محل التفاسير الأسطورية الدينية. أصبحنا إذن أمام خطاب قوامه المعنى وقوام هذا المعنى ليس شيئا آخر سوى العقل والمنطق. إلا أن الوقائع لا تنطق بنفسها بالدال الذي تعبر عنه وتحمله. فبعد أن انتزعت الظواهر الطبيعية من قبضة الأحاجي، اكتشف التفكير الفلسفي مهمة جديدة وصعبة هي التفكير في المعنى ذاته الذي تكتسيه مقولة الحقيقة التي كان العقل الكلاسيكي قد شيدها على مقولة منطق الطبيعة التي تلتقي، بأعجوبة، مع مقولة أخرى تليدة هي : المنطق الفطري الكامن في الفكر الإنساني . لهذا السبب ذاته أدخل ( هايزنبرغ) إلى الفيزياء الذرية مفهوم " علاقات الارتياب" أملا في فهم شيء ما في عالم الذرات" وهو ما رأى الفيزيائي الذري الدانماركي الشهير (نيلز بور) بأنه عندما يحصل ذلك" حينها، فقط، سنفهم ماذا يعني فعل : " فهم"!

يقر عدد من علماء الفيزياء، اليوم، بأنه ليس في مقدورنا أن ندعي، في نفس الوقت، بأننا نفهم شيئا ماديا ونفسره، ذلك أننا لا نفهم، حقا، إلا ما يتحرك بحافز وهو ما يعني ما يستجيب، في حركته، لغاية ما. والحال، أن المادة ليست لها غاية قابلة للمعرفة وهو ما يترتب عنه أنها ليست حاملة لدلالة محددة، ليست خاضعة، من ثمة، لتفسير، بل وهنالك خطورة في جعلها تخضع - لاشعوريا - لغايات داخل لغة إحيائية غير مراقبة بما فيه الكفاية والتي ورثها العلم عن اللاهوت وعلم النفس.

في حوار مع (فولف كانغ بولي ) حول المعنى الذي قد يكون لقابلية شيء ما للفهم من الناحية النظرية، يقول (هايزنبرغ) : " عندما نشاهد طائرة تحلق في السماء، يمكننا، لحظة المشاهدة، القيام - وبدرجة معينة من اليقين - بعملية حسابية تسمح لنا بالتكهن بالنقطة التي ستصل إليها بعد ثانية من الزمن. لكن لا يعني هذا أننا فهمنا شيئا في المسافة التي قطعتها الطائرة. لا يتحقق لنا هذا الفهم إلا عندما ندخل في نقاش مسبق مع ربانها فيدلي لنا بتفسير عن الهدف من تحليق طائرته، عندها فقط سنفهم، بشكل واقعي، مسافتها". تلعب النظرية ، بشكل تعسفي ولا شعوري، دور ربان في عباب الكون. إنها لا تقود ذلك الترابط المغلط بين رتابات المادة والفهم المدعى "طبيعيا".

إن معاينة هايزنبرغ هذه، على بساطتها -وهو الذي كان يحلم بإدخال الغائية إلى الفيزياء الحديثة - تندرج، في واقع الأمر، ضمن تقليد في التفكير الفلسفي في الموضوعات الفيزيائية دام طيلة أربعة وعشرين قرنا. فالعلم الحديث، وعلى الرغم من غنى وتعقد ودقة معطياته، يشهد أزمة عميقة بخصوص الوضع الإعتباري (المنزلة) الذي يتبوأه (أو يجب أن يتبوأه) التفكير النظري بداخله، وهو في هذا لا يعدو أن يصطدم، مجددا، بالمشكلة الأساسية المرتبطة بمعقولية العالم التي سبق أن طرحتها الفيزياء الغائية الساذجة لكل من فيتاغور، وأرسطو و أفلاطون. يمكن أن نستدل على ما نقول بمثال: "لو وضعنا جاهلا أمام آلة أو أمام أي منتوج معقد من منتوجات الذكاء الإنساني فسوف يستمر بالتحديق في تلك الآلة من مختلف واجهاتها بل وقد يلاحظ استعمالاتها المفيدة. لكن طالما لم يحصل على تفسيرات عن تسلسل مختلف القطع المكونة لها والتعاقب المنظم للعمليات التي نطالبه بالكشف عنها بغية الوقوف عند النقطة النهائية (الغاية) (م) ) التي تلتقي عندها، فسوف لن يفهم ،شيئا يذكر في الفعل "العاقل" للآلة التي تتواجد أمام ناظريه. وذات الشيء يصدق على ذلك الذي لا يعرف الناس أو يجهل أهواء وميولات المحيطين به، فلن يرى أمامه سوى مشاهد مأساوية؛ ساخرة أو مبتذلة في سلوكات الناس لأنه جاهل بالدوافع المحركة لهم. أفعالهم لن تكون إذن، بالنسبة إليه، حاملة لمعنى وما يحدث أمام ناظريه فسيكون، بنظره، لغزا في لغز" (مانسيون).

لا يحصل لنا إذن فهم بالأشياء إلا إذا حصل لنا علم مسبق بـعلم الغايات. برواية "الغثيان" لـ سارتر هناك شخص يستشعر، إلى حد الاضطراب العقلي، الطابع العرضي للأشياء الجامدة. ووجودية سارتر، كما نعلم، ليست من ألفها إلى يائها إلا اكتشافا لـ: "الوجود سابق على الماهية"، وهو ما يعني ألا وجود للوغوس (عقل) مستتر داخل الواقع.

IV - جينيالوجيا النزعة المثالية التأملية :

إذا نحن استبدلنا ، بشكل منظم ، مصطلح "قانون" في العلوم بمصطلحات حاملة لشحنات دلالية أقل كـ: توتر، انتظام، رتابة، المكرور، فسوف نتبين كم هي ثقيلة الحمولة الأسطورية للغة القانونية التي فرضتها المعرفة النظرية الإغريقية والحديثة على الأزمات الغير قابلة للتفسير في الطبيعة. ذلك أن مقولة القانوني ( أو ما يكتسي طابعا مقننا) (15)، تقتضي ترتيبا معقولا ومطمئنا للأشياء وقواعد تفترض خطة مضبوطة تسير وفقها الطبيعة وخطابا من القوانين كما لو كانت الطبيعة هي التي تخاطبنا به.

في سياق حديث له عن العلاقة بين مقولة القانون وروح العقل، يكتب فاليري قائلا : "سواء تعلق الأمر بالقوانين الطبيعية أو بالقوانين المدنية فإن نمط القانون ذاته تم تدقيقه من طرف "عقول" متوسطية. لم يسبق أن حصل التوسع، بكل هذا الغوص في العمق والنفع، في قدره الكلام المنظم والمقود بوعي، خارج دائرة هذه "العقول". هذا الكلام الذي يستعمله المنطق ويحرص ، قبل ذلك، على تنظيمه، في سبيل اكتشاف حقائق مجردة هو الذي شيد عالم الهندسة أو عالم العلاقات الخالقة للعدالة وهو الذي كان سيد "الفوروم"(16)، أو كان بمثابة الوسيلة السياسية الأساسية بل وحتى الأداة المسترسلة التي تسمح بالحصول والحفاظ على السلطة"(17).

إن الطابع المغالط لنوع الإيمان الفكري الذي تمنحنا إياه مقولة "قانون" يظهر، بقوة، في هذا المقطع (ليفي برول : 1857-1939): "إن الطبيعة التي نعيش في أحضانها تم التعبير عنها في لغة فكرية قبل أن نعيش فيها. إنها نظام وعقل شبيهان بالفكر الذي جعل منها موضوعا للتفكير ويتحرك بداخلها. يقتضي القيام بنشاطاتنا اليومية، حتى أدق جزئياتها، ثقة هادئة وكاملة في كونية القوانين الطبيعية"(18). يفضي نقد " الأمان" الناجم عن كونية فوقية مغالطة، مع نيتشه، إلى بدايات لأنثربولوجيا (إناسة) نقدية، أي إلى علم نفس تحليلي للسلطة الاقناعية ل "الحجة" المدعاة: " تجريبية". ذلك أن هذه الأخيرة لا تبرهن إلا على رتابة حادثة في الطبيعة وليس على عقلانية ما متخفية فيها.

إن تحويلا منتظما لأفعال الأشياء الجامدة إلى قوانين معبر عنها في كلمات شبيه بعملية " تعال بالمادة إلى ما ليس بمادة"(19).

فالطبيعة عندما تتحول إلى نظرية تموت لتنبعث في شكل " خبز فكري" يقتات منه العقل. تعاود المعرفة، التي تخوض في موضوعات المادة الجامدة، الولادة بأعجوبة وتتخذ هيئة متحدث في المعبد الفيثاغوري لـ "تناغم الطبيعة". يتحول الفكر إذن إلى مذبح تجري فيه عملية التحويل الباهرة هذه. يصبح رجل التجربة هو ذلك القس الذي يهدي قرابين مثالية إلى العقل على مذبح اسمه الفكر، وهذه القرابين هي من قبيل : سببية، حتمية ، قوانين. ويحصل، مقابل ذلك، من طرف كوسموس أضحى ناطقا، على مكافأة وتحية من كلمة حاملة لمعنى والتي ليست شيئا آخر سوى ما نعبر عنه بالنظرية. لقد استشعر (نيتشه) قبلنا البنية الأخلاقية للعلم المثالي الغربي إلا أن ما يطفو على السطح، وبشكل أعمق ، في أيامنا هذه، هي بنيته الكهنوتية. في هذا المنحى، يمكن القول بأن النظرية هي بمثابة إنجيل الفكرة التي أضحت إلها وهو ما استخلص منه هيغل كل المترتبات اللاهوتية عندما جعل من سيرورة العلم سيرورة للفكر نفسه وهو تحت إمرة الفلسفة والعقل. بمقتضى ذلك، أصبح كل من الإسكندر، قيصر، نابليون (...) أدوات الفكرة في التاريخ وأصبحت الدول تجليات للاله كما هو الشأن عند بوسويه(20).

بطبيعة الحال، فتَحْتَ التحالف النبيل بين التجربة العلمية ولوغوس حصل تقديسه من خلال مفهومه ذاته، يكون الفهم البشري المطهر والمرفوع إلى مستوى المطلق، قد أبرم ميثاقا قنوعا لكنه ماهر مع مقتضيات إنسان باحث، ببساطة ، عن معرفة قابلة للتنبؤ أي معرفة قابلة لذر النفع(21). هذا "العقلاني" القادر على كل شيء (القدير) بل وهذا "المنزل" ذاته المتمثل في تجربة تقود خطاها فكرة يفترض أنها تكشف المعقولية الملائكية الناصعة للطبيعة، هاهو ذا يدخل، بكامل السطحية، في تحالف مع البداهات العامة للحس المشترك.

تم إذن توقيع اتفاقية ماكرة ورعوية خالصة بين الفهم الفطري والمثالي المزعوم والرتابات الصامتة للكون. إلا أن المادة ليست "عقلانية"، إنها ما ليس قابلا للتزعزع، ولاقابليتها للإحساس هذه بما حولها هي التي تجعلنا نضفي عليها خطابا وطابعا أسطوريا. هذا بالذات هو ما قام به أفلاطون في "إبينوميس" عندما قال بأن الأجرام السماوية حكيمة لأن حركتها منظمة وليست عشوائية. نحن نقول بأن حركتها "عقلانية" وليست "حكيمة" مع ما يلف " عقلانية" بدورها، من حمولة أسطورية.

إن الاتفاقية التي أبرمتها التجربة مع كلام العقل هي اتفاقية غنوصية محض وغنوص في الإغريقية تعني معرفة. النظرية هي غنوص (عرفان) أضحى تجريبيا يفترض فيه أن يجلي وقائع وأفعال لوغوس ما.

من وجهة النظر هذه، يمكن اعتبار العلم المصوغ في نظرية بمثابة ترسيخ لكلام المنطق الذي تكمن وظيفته، أساسا، في ربط جسر أمان بين الشساعة المجهولة للكوسموس والإنسان للحيلولة، من ثمة، وكما يفعل الدين تماما، دون التخلي عن الوعي في متاهات الغير قابل للتفكير. يمكن أن تعتبر النظرية كوثن للعلم باعتبارها تقيه من "الشعور التراجيدي بالحياة" ( أونامونو). بخلاف العقل، يبقى التفكير الفلسفي تفكيرا مفتوحا على اللغز المطلق الذي يلف الوجود والكون، مهمته الأساس هي إزالة الأقنعة عن الأوثان التي تريد الهجرة من قارة الاعتقاد نحو قارة العقل.

يسمي البدائيون الأوثان بـ: الوجوه " العاقلة"، المصنوعة من خشب وحجر وهو ما يجعلهم يعتقدون بأن هذه الأشياء التي هي الأوثان تتكلم بحسبانها آلهة حية. من البديهي أنه حينما يخطر ببالنا، يوما، بأن هذا الشيء الكبير الذي هو الكوسموس، قد يأخذ الكلمة - كلمة العقل - ليقدم لنا شروحات ما، فإننا سنعتقد، حينذاك، بأن الطبيعة بدأت تغمز للإنسان. عندما نقدم على تزويد الطبيعة، دون أن نعلن ذلك بحياة فكرية فإننا سنصبح عبدة أوثان وليس أناسا مفصولين.

إن المقدس الحق مفصول(22). لقد ألح شاتوبرياين على جانب من العظمة أساسي كان يميز المسيحية ألا وهو "تسليمها الطبيعة إلى لغزها" وذلك بتحريرها من الآلهة التي كانت تسكنها في غابر الأزمان كما أن تجربة المتصوفة هي، في هذا المنحى، ذات أهمية بالغة ودالة. فقد كانوا يتحدثون عن "ظلام المعاني" ثم عن "ظلام الفهم" كما هو الشأن بالنسبة للقديس جان دولاكروا.

الفكرة والوثن في اللغة الإغريقية لهما نفس الجذر اللغوي(23). كلاهما ينحدر من هذا الذي يسميه الإغريق "التبدي العام للأشياء" التي تتحول إلى فكرة(24). عندما يتحول التجريد - وهو تلك الأداة الدماغية التي تعبر عنها اللغة التي هي تجريدية بطبيعتها - إلى فكرة ، مبدأ أو إلى "ماهية"، فإنه يصبح، بالضرورة، مثالا فكريا (جمعه: مثل). ينـزع إذن إلى المسير كما لو كان ألوهية في التاريخ بغض النظر ، بشكل خاص ، عن كل مضمون واقعي ينقله ويعبر عنه.

كان أناتول فرانس يقول، بخصوص " قضية دريفوس"بأنه ضرب من الأسطورة القول بأن الحرية تسير قدما إلى أمام. فالحرية لا تسير إلى أمام، ما يسير إلى أمام هم الذين يقاتلون من أجلها.

المُثُل في العلم المثالي هي بمثابة طوطمات ذهنية(25) ينسبها الفهم الإنساني، بسذاجة، إلى الأشياء الجامدة. إن الكون لا "ينصاع" للسببية والحتمية. هذه طوطولوجيات (تحصيلات حاصل) لها وظيفة اسمية بحتة. كل ما تشير إليه هو أن الطبيعة تقتفي، بشكل ملغز، سبلا " معينة" وهو ما لا يعني أن هذه السبل سوف ترتبط بعروة لا تنفصل بـهذا النمط من وجود العقل الذي نسميه: حتمية.

V - قليلا من التاريخ :

يرقى توزع العقل بين سماء النظرية وأرض التجربة إلى العهد الإغريقي(26). فمن خلال الحرب والتجارة، اكتسب الشعب الإغريقي تعلما بطيئا للملاحظة المنظمة والصبورة للسلوكات المتواترة الحدوث - ومن ثم القابلة للتوقع، للاستغلال سياسيا وتجاريا - للناس والأمم؛ بل إن أرسطو لاحظ، في سياق عملي أكثر، أن العقل بدأ في البروز بعد اكتشاف الإنسان لعالم المهن التي كان الإغريق يسمونـها فنونا. ولقد اعتبروا السياسة، بدورها ، نوعا من المهنة - الفن في ذات الوقت. ولـهذا السبب أيضا كانت أثينا هي إلـهة المدينة وحكمتها الخالصة وقوانينها. كان الإغريق يتمثلون السياسة كجيش طليعي. فلكي تكون حكيما، بنظرهم، وتمتلك معرفة، لا يكفي دحر الفقر اعتمادا على معرفة تجريبية، بل لا بد ، فوق ذلك، من النجاح في إقامة أسس نظام مدني وأخلاقي. سيحصل العقل إذن، بـهذا المعنى، على نوع من الإجماع السياسي. الإجماع الذي يستند على اليقظة العقلانية للمدينة، وهذا بالذات ما عبر عنه مالرو عندما تحدث عن "المقلع الفكري" لأثينا. فبعد سياسة العقل التي كانت تستوجب التشييد العقلاني للمدينة وقواعدها، كان من الطبيعي ، تماما، المرور إلى المعرفة العقلانية بمختلف استعمالات المادة الجامدة. تتبدى الطبيعة، عمليا إذن، على أنها أكثر قابلية للتوقع من مسلكيات الناس والأمم من خلال الأنشطة التجارية التي يمارسونها والحروب التي يخوضونـها .

سينتهي الصراع بين المعرفة الملموسة أي الخاصة (العملية - م - ) والنظرية المتسمة بالتعميم والتجريد إلى صراع أخلاقي. من جهة أولى، ستجعل منها مدينة التجارة والحرب، ذات الممارسة النفعية والعدوانية، السيدة "العقلانية" لإرادتها في السيطرة. في حين، ومن جهة ثانية، فإن المعرفة الباردة والكلبية بـ"العلل العامة" و"القابلة للحساب" والمتحكمة في النجاح، لا تبرر المدينة من منظور النظرية ومنطق الكون اللذين يلعبان دور المستويات الروحية ولهما السلطات المطلقة على مقولة الحقيقة ذاتها. سيضيف اينشتاين لكل هذا قوله: "مختلفون جدا عن بعضهم البعض هؤلاء الذين يصولون ويجولون في معبد العلوم كما أن القوى الروحانية التي قادتهم إليه بالغة التنوع (…) العلم ، بالنسبة للبعض منهم، رياضة تشبع كبرياءه (…) فلو بعث الإله ملكا من ملائكته ليطرد من هذا المعبد أولئك الذين هم من هذا الصنف، فإن المعبد سيصبح فارغا بشكل يبعث على القلق، لكن سيبقى ، مع ذلك، بداخله رجالات من الحاضر والماضي (…)، ويخلص اينشتاين قائـلا :" إن الحالة الفكرية للعلم شبيهة بالحالة الفكرية للدين أو الحب" (27). سيطالب اينشتاين، بخصوص النظرية بـ"كيشوتيزم" مثالي والذي، بدونه، سوف يؤثر الفيزيائي أن يكون إسكافيا"(28).

ما الذي جعل إذن العقل لا ينجح في مقاومة كل أنواع الأساطير إلا عندما يحل محلها تارة حشدا من الآلات المفسرة تفسيرا أسطوريا للميكانيكا بذات القدر الذي تدعي به إعطاء شروحات عن الحكايات المقدسة، وتارة أخرى ينصب على رأس رياضات كونية خبيرا ممتازا في الهندسة؟ ما جعله كذلك هو كون فئة من مستعمليه يركزون اهتمامهم على الأشياء الجامدة، وفئة أخرى تولي كل اهتمامها للكائنات الحية. ديكارت و هارفي، مثلا، لا يختلفان إطلاقا في موضوع الدورة الدموية، إلا أن هذا الأخير " يفسر"، بصفته، عالم أحياء، حركات القلب ب "القوة الدفعية" والأول، بصفته ، فيزيائيا، بـ "القوة الميكانيكية" التي لا ترى في القلب سوى محرك بداخله - حسب أرسطو " نار" قادرة على مد الشرايين بالدماء. لكن لا أحد يعرف ما عساها تكون"العلة الحيوية" عند هارفي و"العلة المادية" عند ديكارت. سيتحدث نيوتن عن "علل عامة" في مجال ميكانيكا الأجرام السماوية - كتلة مسافة - تمارس تأثيرها على مادة هلامية هي الأثير حتى يتسنى له "تفسير" دوران الكواكب حول مداراتها. لكن من هو ذا العالم الذي رأى بأم العين "علة" كما هي؟ إذا كانت "العلة" إذن غير قابلة للضبط بحسبانها واقعة طبيعية وقابلة للعزل أيضا، يتعين علينا أن نتساءل عن وضعها الاعتباري داخل المختبر الذي يكون فيه الفكر الإنساني ذاته موضوعا للملاحظة؟

بناء عليه أمسى السؤال الموجه إلى التفكير البشري يتمثل في إمكانية معرفة طبيعة ومعنى وحمولة العمليات التي، اعتمادا عليها، ينظم العقل التجربة و"اشتغالاته عليها" في أفق استخلاص معتقد منها، وبالأخص التساؤل ، في كل هذا، عن الكيفية التي يدخل بها مقولة العلة العقلانية والمفسرة إلى عالم الطبيعة؟

ستبدو مقولة العلة، مع هيوم أخيرا، كما لو كانت اعتقادا. انطلقت هذه الثورة الفكرية في القرن الثاني عشر مع (أبيلار = 1079-1142)، وحتى هذا التاريخ كان التقليد الأفلاطوني الذي يخترق اللاهوت المسيحي ينسب إلى الخلق الإلهي وجود أفكار الخير، الجمال، الحق ، العدل. كانت الأفكار المساوية، تقريبا ، للإله في درجة القداسة ، هي نماذج إلـهية يسترشد بها الإله في عمله حتى إنه يغمز لها من حين لآخر اتقاء الوقوع بالخطأ على حد تعبير سكوط إريجين. كانت الكاثوليكية تنزع إلى مقاومة الفلسفة الأفلاطونية باسم أسبقية الشخص في ديانة تقوم، أساسا، على التجسيم ولم تفلح في ذلك لأن الإيمان بالحاجة إلى أفكار، تقود خطى عقل طبيعي، من خلق الله.

دشن (أبيلار) تخليص الفكرة من طابعها الأسطوري من خلال ثورة لغوية قوامها القول بأن المفاهيم ليست وقائع طبيعية ولكنها تجريدات من صوغ اللغة. لم تطل تحليلاته لوظائف الكلمات، الأفكار الأخلاقية الكبرى (الخير، العدل الخ…) إلا أن آخر توسع نظري للفكر الوسيطي مع أوكهام (1299-1350) مهد الطريق للنهضة والإصلاح بتحقيقه إنتصارا على السكولاستيك. كان أوكهام يدافع عن فكرة مفادها أننا لا نستطيع القول، بشكل مشروع، ب "وجود" إرادة في ذاتها انطلاقا من أفعال إرادية، ذلك أن الإرادة ليست سوى تجريد تكمن مهمته، بشكل عام، في تعميد الأفعال الفردية التي يحصل استشعارها، من طرف الفرد، كما لو كانت إرادية.

انقسمت الجامعة إذن إلى دعاة النزعة الواقعية ودعاة النـزعة الاسمية ويصنف من بداخلها في هذه الخانة أو تلك وتحصل الانخراطات في هاتين النزعتين للدفاع عن أفكارها المتنافسة كما يحصل، أي انخراط في حزب سياسي. ينحصر كل الجهد الفكري للنزعة الإسمية في البحث عن الكائن دون التساؤل عن معنى هذا البحث. إلا أنها تعلن، سلفا وبشكل جازم بأن الكوني غير "موجود" إلا بالروح وأن الأفكار ليست إلا طرقا عامة ومجردة أي ملتبسة للإشارة إلى الأشياء المفردة.

منذئذ، تبدى استكشاف عالم الذاتية الإنسانية كما لو كان إستكشافا للمعتقد. فمن فرط مشاهدته لظواهر مكرورة ضمن ملابسات محددة، تخيل الإنسان كائنا أسطوريا سماه "رابط العلية" واعتقد، من ثمة، أنه يربط الوقائع الطبيعية بعضها ببعض إرضاء لنفسه أو تهدئة لروحه القلقة.

إن العادة هي المصدر الوحيد والحقيقي لـهذا الإيمان الذي صاغه العقل. سبق لمونتاني أن برهن على أن الحيوانات " تفكر" غالبا كما يفعل الإنسان انطلاقا من التجربة بمعنى أنها هي أيضا تفترض أن ظاهرة ما عندما تتكرر فإنها تستمر في تكرار ذاتها على نفس النحو الذي لا يتخلف، ولا يختلف. وبما أننا لا نستطيع الادعاء بأنها على علم بـ "منطق الطبيعة" وقواعدها فإن هذه القواعد، ذاتها، ليست في شيء أُسًّا للعقل وأنه من العبث الاستمرار في البحث عن "قوانين حتمية" و"ضرورية" مزعومة يتصرف الكون بمقتضاها ضمن سنن أخلاقي لعقل مدبر للعالم.

مع كانط، سيمسي التفكير الفلسفي موسموما بطابع إستنباطي أعظم وبالأخص في دراسته لافعال العقل. عندما كان مأخوذا في "نقد العقل الخالص" بالتفكير في الثورة النيوتونية، وبشكل خاص، في مقولة العلية، كان يتساءل عن كيفية اشتغال الفكر البشري لينجح ، بصفة حتمية، في العثور بالعلم على نظام نظري صارم ومعقول في ظاهره. فهل المكان والزمان في ذاتيهما قابلان للفهم واقعيا أو أنهما ليسا سوى مقولتين قبليتين بمعنى علامتين دالتين على تناهي الأنا؟

سوف يستمر التحليل النفسي لما هو نظري مع نيتشه. بدأ التساؤل إذن، شيئا فشيئا، إن لم يكن العلم القائم على العقل النظري إلا شكلا جديدا ومقنّعا ( من القناع) للسحر. هذا السحر الجديد الذي يعود نجاحه، بشكل أفضل مقارنة مع سحر الاعتقاد الديني ، في مجال التجربة ، لحذقه في خلق أحداث واقعية وقابلة للحساب وجعله منها حججا مزعومة لفهم هذه الآلهة أي هذه السلطة الشبه مفسرة للألوهيات المثالية التي تنتظمها وتجعل منها طوطمات ( يقصد: العلية والحتمية)، في حين أن الرواية المقدسة للأحداث الطبيعية، وبحكم إهمالها وعدم اكتراثها بالمقاييس المضبوطة وعدم استعانتها بالملاحظة وردة فعلها التي هي المعادلة، فإنها لم تذهب إلى حد تجعل فيه من أسطورتها المفسرة نسخة طبق الأصل لما يحدث، فعليا، في الطبيعة. علينا أن نعلم بأنه لا وجود لـ"حجة مادية"، فكل حجة على حدث ما تحيل على مراجع أولى تجعل الحدث إياه دالا في المجال "العقلاني"، هذه المراجع أو المرجعيات هي من صنع الإنسان خالق دوال هذه الطبيعة.

إن نزع الطابع الأسطوري عن مثل اللغة منذ أبيلار حتى نيتشه جعل العقل الغربي يعي محدودية المعرفة العلمية فلم يعد وهو في حديقة الكلمة كما لو كان في الحديقة الطبيعية لفهم هو من صنع الإله. يقول نيتشه بـهذا الصدد: " حيث أن الإنسان كان قد اعتقد، لمدة طويلة، في مفاهيم وكلمات الأشياء كاعتقاده في صحة الحقائق الأبدية، فإنه أكسب نفسه نوعا من الاعتزاز بالذات جعله يعتقد نفسه في مرتبة فوق مرتبة الحيوان. كان يعتقد، بالعقل، أن اكتسابه للغة أكسبه معرفة بالعالم. إن واضع اللغة لم يكن متواضعا بما فيه الكفاية، تواضعا يجعله يعتقد أن ما قام بوضعه لا يعدو إشارات إلى الأشياء تقوم بمجرد تعيينها، بل كان يعتقد بأنه بصدد تدوين ما من شأنه أن يكون الشكل الأسمى لمعرفتنا بالأشياء"(29).

خاتـمـة :

يمكننا أن نختصر في الفقرات الست أسفله الفائدة التي جنيناها من نقدنا لأوثان الفكر التي تنزع إلى الإستيطان بالعقل.

1 - الوضع الاعتباري للعلم :

يبرهن التاريخ، بجلاء ، بأن العلم يتقدم طالما اعترفت به السلطات السياسية والدينية ودافع العلماء عن أولوية "حقوق التجربة" على حقوق النظرية". فإذا تم اطراح تجربة ميكلسون جانبا لكونها لا منطقية ، فإن نظرية النسبية الانشتاينية لم تكن تدافع " عبثا" عن الفكرة القائلة بتغيير الزمن الموضوعي بتغير الأداة التي يقاس بها. فدقة الوقائع المسجلة هي، بالضرورة ، معيار صحة العلوم. وهذه الأخيرة بحاجة إلى ضبط بنيات واقع قابلة للاستعمال وصياغتها صياغة رياضية لا أن تكتشف كلمة تضفي بها طابع المعقولية على العالم. فليس من المعقول، من منظور بشري محض -مع أن هذه الواقعة قابلة للضبط الحسابي- أن يكون قطار في وضع حركة أقصر من قطار هو في وضع عطالة. فبمقدار ما تتقدم، اليوم، المعرفة بعالم المادة فإنـها تقطع جسور التواصل باسم الملاحظة والتجربة مع أرسخ المبادئ المنطقية -على الأقل حسبما نعلم- ألا وهما مبدأ الهوية وعدم التناقض القائل بأن شيئا ما لا يمكن أن يكون، في ذات الوقت وتحت نفس العلاقة، هو وضده.

منذ اينشتاين، تبين بما لا يدع مجالا للشك، بأن الطبيعة لم تنصع أبدا "لمنطق الفكر البشري" وبأنه ، إذا كان هذا المنطلق قد أخرج إلى الوجود المقولة الديكارتية الأثيرة "الشعور بالبداهة" وهي المقولة التي تهيمن على مختلف مناحي حياتنا اليومية، فهذا لا يعني سوى أن طاحونة العادة قامت بنحت "حقيقة" ليست، في واقع الأمر، إلا إحساسا خرج من معطف الرأي.

أكثر من هذا، فمنذ العصر الوسيط لم يحصل التخلي عن المبدإ الأرسطي القائل بأن كل متحرك لا يتحرك إلا بمحرك آخر، وهو ما اكتشفناه بفضل نقد الإسميين لهذا المبدأ وهو ما مكن علماء الفيزياء، في ما بعد، من اكتشاف "مبدأ" العطالة أو القصور الذاتي الذي يقول إن جسما يستمر في حركته طالما لم تعاكسه قوة أخرى.

 

 

2 - انطلاقة الآداب والفنون :

علمت تجربة ثقافية مديدة الغرب حقيقة مفادها أن الآداب تنتعش دائما بموازة انفتاح جديد للفهم والوعي البشريين على الجهل بمعناه السقراطي واللغز الذي يلف الشرط الإنساني ، في حين يقود انغلاق المعارف داخل أنساق ذات طبيعة أسطورية إلى تكلس عصي للنزعة المدرسية وإلى سفسطة إدارية وبروز أنظمة سياسية تسلطية. فحينما بدأت المسيحية، عند ظهورها، في محاربة أوثان الشرك جعلت الإنسان يحس بافتقاده لأمان درج عليه وأيقظت ، بداخله، قلقا خصيبا وجعلت الفكر الإنساني في وضع تخلي متروك وحيدا أعزل في مواجهة شساعة الكون. إلى حدود بداية العصر الوسيط، كانت الآداب تحظى بمكانة راقية بجامعة السوربون، فيتوجب على الراغب بالتدريس بـها الحصول على لقب " أستاذ في الفنون" قبل لقب أستاذ في اللاهوت. لكن، وشيئا فشيئا، وتحت تأثير المنظرين المتحمسين للغة "قاطعو لحم المنطق أطرافا "، على حد تعبير بيير ديلي وكذا السوربوناريون الذي كان رابلي يسخر منهم، بدأت الغلبة تكون لعقلانيي العقول الضيقة إلى الحد الذي تم فيه تضييق الخناق على كل تلقائية خلاقة. مع انطلاقة عصر النهضة، لم يكن الكاتب الكبير بترارك يحيل، فقط، على فيرجيل بل، وبالمقام الأول، على القديس أوغسطين.

3 - سيكولوجيا جديدة :

يقود نقد أوثان الفهم البشري إلى سيكولوجيا تجريبية جديدة التي نلحظ، عبرها، كيف ينعكس الإنسان، بطريقة لا شعورية، في مرآة المعرفة المؤمثلة بالنظرية وكيف أصبح عابدا متعبدا بصورته المثالية ذاتها وهو، في كل هذا، بهيئة دون كيخوطي أسطوري. فمن خلال نقده ل "الروح الطيبة" و"الأنا المثالي"، يكون لاكان قد اقترب من نقد ميتافيزيقي للأنا الذهني أي مما نسميه هنا بأوثان العقل(30).

أما في مجال السياسة فسرعان ما أدمجت المثل (الأفكار المؤمثلة -م) التي عدت ربوبيات مجنونة للفهم البشري، الإنسان داخل شبكة الطغيان الضيقة. أفضى تحليل لأوثان العقل المثالي إلى نقد عميق للأدلوجات التمركزية ، أي لوغوس الفكرة وإلى تجديد ابستمولوجي للمدارس النفستحليلية على اختلافها. تقود عبادة الفكرة عند هيغل إلى الدولة - الفكرة أو الدولة الأدولجية التي يفترض أنها، وبفضل القوة اللامتناهية لـ "اللوغوس" الذي تنشطه هيئة مثالية من الإداريين المخلصين إخلاصا ملائكيا للعقل، تجسد اللوغوس الجديد الذي لن يكون شيئا آخر سوى العقل السائر قدما على طريق التاريخ، سيرورة الإله نفسه.

بِسحبه القناع من على الطبيعة القيصرية للفكرة وقدرها " الأدلوجي"، يكون نقد أوثان العقل قد أضاء لنا عتمات الطبيعة العميقة للمدن المثالية للتاريخ القديم، وبالأخص "مدينة أفلاطون" التي كان التسامح هو الحلقة الأضعف فيها لأنها، منذ ذلك العهد، طردت الشاعر من رحابها وفي ذات الوقت مهدت الطريق للدول - الأفكار لكل من(ماو،ولينين أو روبسبيير.

4 - ولادة أنثربولوجيا نقدية :

لاحظ كانط بكتابه (نقد العقل الخالص) استحالة استخلاص مقولة "الضرورة المنطقية" لقواعد وقوانين الطبيعة من التجربة، وهي الشرط الذي لا بد منه، بنظره، لفهم معقول للعالم. لذلك أوحى بتلقف أثر كوبرنك) الذي تساءل - أمام استحالة فهم حركات الأفلاك، انطلاقا من دوران الشمس حول الأرض - إن لم يكن من شأن الفرضية المعكوسة إيصالنا إلى نتائج أفضل. بالمثل، من الوارد أن تسقط الأقنعة على المعرفة المقنعة وينجلي عليها الغموض، بنظر كانط دائما، إذا كنا ندير (من دار، يدور -م) المعرفة النظرية والعلمية حول القوانين الفطرية لمنطق الفكر البشري ومبادئه الطبيعية كما لو كنا نديرها حول الشمس الحقيقية للعقل المتناهي. قاد هذا التوجه كانط إلى تحنيط المبادئ التقنينية لفهم بشري قائم على حقائق يفترض أنها غير قابلة للتغير، ويعني بها الحقائق الرياضية في زمانه. على هذا الطريق الذي سلكه كل من كانط وكوبرنك، يتعلق الأمر ، اليوم، بالنزول نحو هاوية جديدة من مهاوي ذاتية العقل واللحاق بالأسس التي يمفصل العقل الغربي حولها التجربة وبفكرة القانون والعكس بالعكس. فهل ستكون عقلانية العالم ثمرة لنشاط استشرافي للإنسان ؟ هل سيكون العقل الأداة الأوروبية الخالصة لتحقيق رغبة دينية، في جوهرها، رغبة ربطنا بلوغوس؟ في هذه الحالة، سوف يدور العالم جيدا حول شمس عقلنا ، لكنه عقل تكشف كأسطورة، وبدقة أكبر، كشكل ولد باليونان مع فيثاغور ومن البحث عن كلام رياضي (من الرياضيات (م) ) يختصر العالم ويكون خليفة للفلسفة. هكذا سيكون التعالي المتجدد لبحث فلسفي قد ترجم نفسه من خلال إرساء أنثربولوجيا نقدية. سوف تنكب هذه الأخيرة على دراسة العقل الوثوقي بحسبانه وثنا ذهنيا. من شأن دراسة عميقة للغرب العابد والمتعبد بالفكرة تخصيب العلوم الإنسانية، سوف تنكشف أخطاء العقل، عندئذ، كمرآة الإنسان الأكثر خفاء: إنـها مرآة فكره ذاته.

 

 

5 - عودة المقدس :

إن نقدا للامثولات- الأوثان، بعيدا عن أن يقتل المقدس ، فإنه يعيد إليه الحياة بقدر أكبر وذلك بنجاحه في حمل التفكير على الانفتاح على نقد المعرفة الأسطورية الممتدة حتى مشارف العلوم التجريبية. يجب أن نسجل هنا بأن التفكير البيروتستاني بألمانيا، مع لوثر ثم مع كانط لم يكن يستمر في الوجود والتنامي النقدي، اللذان أديا إلى الدراسة الفلسفية للتناهي والأفضلية البشريين (كيركغارد هايدغر)، لو لم يسر على خطى الإسميين. فبتحرير الإنسان من تلك "المعرفة البديهية" القائمة على "أفلاطونية الشارع" التي لم تكن سوى تعبير آخر عن الحس المشترك، يكون النقد للأمثولات العقلانية قد نفخ الحياة في التعالي وأعاد الاعتبار للغز.

6 - الوضع الاعتباري للفلسفة :

واجه التعامل مع المادة، بحسبانها موضوعات جامدة، معارضة شديدة من طرف الغنوضيات الفلسفية العبقرية منها (لا يبنيتز، هيغل ، تيلار دوشاردان) أو الأقل عبقرية (برناردان دوسان بيير).

في "السوفسطائي، يعرف سقراط، المتنكر في شخص "الغريب"، الفلسفة على أنها تطهير للروح من خلال التكوين النقدي الذي هو ذروة تربية المواطنين. يقول أفلاطون عن النقد : "إنه أهم أنواع التطهيرات وأسماها، ويجب اعتبار المرء المحروم منه، حتى ولو كان من أكبر الملوك، امرءا مصابا بأعظم رجس"(31).

إن التطهير يتحدر من "فن الغربلة" ( أو الفرز -م) الذي يفصل الجيد عن الرديء. يتعلق الأمر بالفصل البين لطرق أخرى في التطهير عن الطريقة التي لها علاقة بالفهم. يقول بموضع آخر: " الميزة الفعلية هي للتطهير الذي يتوجه إلى التفكير، وإليه وحده، وهو بذلك يتميز عن كل أشكال التطهير الأخرى"، هي ذي "القوة التطهيرية" التي هي ميزة الفلسفة(32).

الفهم، بمعناه الصرف، لا يطهر من الجهل اللصيق بالوقائع ، ذلك أن الأخطاء اللصيقة بالوقائع قابلة للتحقق المادي منها. هذا النوع من الفهم يشفي من السيمولاكرات الموغلة في العمق، لكونها لا شعورية، والتي ترتبط باشتغال العقل ذاته المنبهر بتطابقاته مع عالم الأشياء. لا يفتأ سقراط يذكرنا بأن الجهل يحضر دائما في هيئة معرفة. النقد الفلسفي الحقيقي إذن هو نقد لا شعور العقل. يقول سقراط بهذا الصدد : "أعتقد أنني ميزت شكلا خاصا من الأشكال التي يتخذها الجهل، شكلا كبيرا هو ومتمرد إلى الحد الذي يأتي على كل أنواع الجهل الأخرى - هذا الشكل هو ألا نعرف شيئا على الإطلاق ونستمر في الاعتقاد بأننا نعرف"(33).

تتطلب مساءلة لا شعور العقل تغييرا جذريا في التوجهات، في الإشكالية التي دأبت الفلسفة الغربية أن تطرح، انطلاقا منها وذلك منذ أفلاطون إلى أرسطو، مسألة الحقيقة وكانت تسمي معرفة، في ذات الآن، المعرفة التي غدت قابلة للتجريب والمعرفة التي غدت جائزة بحكم انبنائها داخل نسق عالم مؤسس على العقل دون التساؤل الجاد عن مقدار الاعتقاد التي تسرب إلى المعرفة التي تم تحويلها إلى كلام المادة. فهل المعرفة موضوع للتحقق التجريبي شبيهة بوجود الأحداث أو الموضوعات ذاتـها أم هل هي تقنع كخطاب نجهد أنفسنا بأن نرود به الكون؟ ما الذي يقنعنا في "الحقيقة" : الواقع الفعلي للأشياء أم قابليتها للفهم؟

ماذا ستكون الفلسفة إذن - بعيدا عن التراكم الهائل للمعارف المدعاة وضعية - إذا كانت تتشبت، ظاهريا ، بمعرفة سالبة وتنصب على الجهل المتخفي في قلب الحجة المقنعة المؤسسة على الاعتقاد؟ ألا تثير استحالة امتلاك معنى - أي قابلية فهم - ما هو كائن ، الياس فينا؟

إلا أن نقد الجهل المكابر هو استئناس(34). والاستئيناس، بحد ذاته، يرتبط بالبدء، بالبداية. يسمي هوسرل كبار الفلاسفة ب " البادئون الكبار". أمسكوا الأشياء من بداياتها وهو ما مكنهم من فهم الأخطاء من خلال جينيالوجيتها (نسابتها).

الفلسفة هي بداية ماذا إذن إن لم تكن بداية الحكمة؟ في محاورة (تييتيت). يظهر سقراط ، البادئ الأول، كما لو ترك تلميذه الشاب دون مساعدة وبالفراغ، لكنه يردف قائلا: "إن أنت تخلصت من أفكار عديمة القيمة فسيخف وزنك على كل الذين تعاشرهم وستكون أكثر لطفا معهم، لأنك سوف تكتسب حكمة تجعلك لا تخال نفسك عارفا بما أنت جاهله . هو ذا ما يعنيه ، بالحصر، فني في "توليد الأفكار" ولاشيءغير هذا"(35).

التفلسف معناه الدخول إلى بداية كل بداية، إلى هذا البدء في الحكمة الذي يعلمنا بأن استنارة الفكر لا يمر من الطريق الملكية لمعرفة واثقة دائما من ذاتـها بل يمر من طريق التواضع الفكري. والحال، أن خمسة وعشرين قرنا من هيمنة العقل تبين، بجلاء، أن اللاكتمال المعرفي هذا هو، بواقع الأمر، السبيل الأمثل نحو تعميق المعرفة الحقة في مختلف المجالات. على سبيل التواضع والشك، أوقد الفكر ضياء الصفاء الذهني إزاء ذاته وإزاء السيرورة الحقة للفهم ضدا على كل أدعياء المعرفة. يلتقي ديكارت، مع كل من مونتاني وسقراط في هذه الفكرة، يقول :"إذا كان الفكر قد أعطى البرهان على أن ما يبحث عنه يتجاوز قدرات الفهم البشري، فإن ذلك لن يجعله يعتقد في جهله، ذلك أن هذه النتيجة، بحد ذاتها، التي توصل إليها ليست علما أقل قيمة من معرفته بأي شيء آخر"(16) ·

إحالات وهوامش

1 - الأصل اللاتيني لكلمة حدس هو (intuere) ومعناه : أبصر وأدرك ( مترجم)

2 - من (بروميثوس) : تقول الأسطورة هو اله النار ابن (تيتانوس) وشقيق (أطلس) سارق النار من السماء.صلبه (زيوس) بالقوقاز حيث افترس نسر كبده وحرره (هيراكليس). يرد (برميثوسي) مجازا في المكتوب الغربي للإشارة إلى قوى العقل والتقدم والإنتاج، على النقيض من (ديونيزوسي) إله اللامعقول، الخمر والدعة…( ديونيزوس)،

أما (فوست)، فشخصية أسطورية ، يعتقد أنه ساحر ألماني باع روحه لجني أو عفريت اسمه (ميفيز توفليس) مقابل حصوله على خيرات مادية. عند (غوته)، يرد على أنه بطل شعر تراجيدي وعند كل من (برليوز) و (غونو) في شكل أوبيرات، ويبدو أن نقطة الالتقاء بين العقل هنا ما هو " فوستي" هو التضحية بالروح للحصول على خيرات مادية محض كما " يضحي" العقل بالفكر جريا وراء إخضاع الطبيعة (م)

3 - أرسطو : المتافيزيقا أ I ، 28

4 - ذات المرجع : أ I ، ب 5 و أ I ، 981، ب 3

5 - ذات المرجع : أ 2، 982، ب 13

6 - مصدر كلمة Théorie هو الكلمة الإغريقية Théôrein وتعني حرفيا Contempler أي تأمل؛ (م)

7 - أرسطو، المرجع أعلاه، 13

8 - ديكارت : قواعد لاقتياد الفكر، القاعدة الثالثة

9 - كانط : مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلية، (مقدمة الكتاب)

10 - كاتارسيس : مجهود تمارسه الذات على نفسها من أجل التطهر من كل الأدران والشوائب ذات الطبيعة الروحية والنفسية، التي تحول دون تمتعها بصفاء الذهن وهدوء الروح (م)

11 - توليدي ، هو من Maïeutricos بالإغريقي ويعني حرفيا : خبير في توليد النساء وعرف المنهج التوليدي في الفلسفة مع (سقراط) باعتباره مولدا للأفكار من الرجال عن طريق مخاض يحدثه قلق وتحدي السؤال فيهم. ولا بأس أن نسجل هنا بأن (سقراط) كان ابنا لنحات ( سوفرونيسك) : بالإغريقي "ما يجعلك حكيما" ولأم "قابلة" Sage-femme: (حرفيا المرأة الحكيمة) وفي الإغريقي : (فيناريت) وتعني بالحرف " ما يظهر الفضيلة"، وغني عن القول أن سقراط عرف بالحكيم الأول (م)

12 - رأينا أن نعرب (idéalités) في صيغة الجمع ب : المثل وهي جمع لكلمة مفردة معناها الفكرة عندما ترفع إلى مستوى المثال، بمعنى عندما ما تتحول إلى أفكار مفارقة مستلهمين في هذا المرجعية الأفلاطونية ، وقد ترد ذات الكلمة في مواضع أخرى تحت اسم " أمثولات" كما استعملها الفلاسفة العرب وبالأخص الفارابي وليس مثالات" (م)

13 - أفلاطون : محاورة جورجياس، 454 د -و

14 - يربط الإغريق العقل بالمعرفة وهو ما يعني أن فهم الوقائع ومعرفتها كما هي في واقع الحال ليسا إلا شيئا واحدا. في الألمانية يرتبط مفهوم (begriff) بفعل : فهم. أما باللغة اللاتينية، فيتميز فعل : (عرف، معرفة) أي (Scientia, Scire) عن فعل (فهم،فهم) أي (Comprehendere, entendere) والذي معناه الإحاطة بشيء واستيعابه في كليته داخل خيوط الفهم وهو تصور يربط معقولية الشيء بنوع من الأسر الضاغط للواقع.

15 - في النص : La notion de l'égalité (م)

16 - في النص : Forum أو ما يعني، تقريبا ، مجمع يضم أناسا يتناقشون في موضوعات ترتبط بالشأن العام (م)

17 - بول فاليري : مقالات شبه - سياسية، لا بلياد، الجزء الأول، ص 1097

18 - ليفي برول : الذهنية البدائية ، المطبوعات الجامعية الفرنسية، ص 17، 1947

19 - في النص :Transsubstantiation (م)

20 - يقصد : (Bossuet) : جاك بينني بوسويه 1627-1704، اسقف فرنسي لمنطقة (Meaux) عرف بأنه خطيب مفوه وبارع من بين حطباء الكنيسة (م)

21 - في النص :Savoir prophétisable donc profitable (م)

22 - مقدس = Sacré وفي اللاتيني Sacer ويعني الشيء المخصوم من … (م)

23 - في النص : فكرة = idée ووثن = idole ، لاحظ التشاكل ، (م)

24 - (أرسطو) يسمي الأفكارta eidé) و( أفلاطون) يسميها (ai ideai)

25 - الطوطم : حيوان تتخذه قبيلة موضوعا للتقديس والعبادة على اعتبار أنه - حسب المعتقد - إليه يعود الأصل الأول للقبيلة ويكون على هيئة تمثال معبود ويتقرب إليه بقرابين وأضاحي وما إلى ذلك. في النص، تتحول مقولات العقل إلى طوطم ذهني يمارس ذات وظائف الطوطمات القديمة (المترجم)

26 - كلمة : Théorie مشتقة من الكلمة الإغريقية "Theôrein" وتعني "تأمل". مكونة من شقين : "thein" وتعني " ركض" و "orân" وتعني "نظر" ( أو تملى) وحاصل الجمع بين الشقين يعطي "theôrein " أي فعل تأمل سباق الآلهة التي هي الأجرام : آلهة الكادانيين الأوائل ومن بعدهم، آلهة الإغريق . وبحسبانه تخصصا تأمليا - والرياضيات الفلكية جزء منه - فإن العقل الفلسفي الإغريقي كان يبتغي، أساسا، التميز عن المعرفة التجريبية للممارسين المتواضعين للمعارف لكي يحقق التأمل الأسمى للحقيقة الذي يبعث به اللوغوس دبيب الحياة في سدة السماء. لهذا ترتبط كلمة "theôrein" أيضا ب "theamai" يطلق (سقراط) "thaumasioi" المشتقة منها على "الرجال الأفذاذ" وسحرة سيمولاكرات العقل : السوفسطائيون..

27 - انيشتاين : خطاب بمناسبة الذكرى الستين ل بلانك ، أبريل 1918، ترجمة دوديكيز

28 - انشتاين : رسالة إلى بورن، 1949، بدون تاريخ ، من مراسلات انشتاين وماكس بورن : 1916-1955 ، مطبوعات سوي، 1972

29 - نيتشه : إنساني ، إنساني جدا II ترجمة : دوديكيز

30 - انظر ، " مرحلة المرآة" في " كتابات " ، مطبوعات : سوي ، 1966،

31 - السوفسطائي : 230-231

32 - نفس المرجع : 227

33 - نفس المرجع : 229

34 - في النص : initiation من : initum التي تعني بالحرف : بدء ، بداية (م)

35 - أفلاطون : محاورة " تييتيت"، 210

36 - ديكارت : قواعد من أجل اقتياد الفكر XI

المصدر : كتاب جماعي "فعل التفلسف" تحت إشراف كريستيان دولاكمباني وروبير ماجيوري، المجلد الأول، مطبوعات: فايارد، سلسلة "أغوارا" 1980/ ص/ص : 23-43.